حسين خوجلي يكتب: “يكفينا فخراً أننا عشنا في زمان الشيخ عبد الباسط”
كان الراحل إمام علي الشيخ شاعرا واعلاميا وداعية ومثقفا موسوعيا وموثقا للحركة السياسية والفكرية السودانية، بل كان فاعلا فيها بدرجة فارس.
كل هذه المواهب المطبوعة والمكتسبة منحته موهبة الايضاح في اختصار بليغ، وكنا نستمتع بمجالسته وهو يحكي لنا في حبور عن سيرة أبكار الاسلاميين الذين كانوا يعدون بالعشرات، ثلة يكاد يتخطفها الناس.
وحين نعى الناعي بالأمس الحافظ العالم والمحسن والمقدام الشيخ عبد الباسط تذكرت العبارة الماسية التي كان يطلقها عليه صاحب الليل الأبيض (يعجبني فيه غُنتو وتقوتو وفرستو ومشيتو وعمتو ونعمتو ) والغنة هنا رمز للحفظ والتجويد، والنعمة رمز للكسب والتجارة وفيض الانفاق، وقد أضفت لهذه الصفات الجامعة المانعة نشطتته وطرفته.
فقد حكى لي أحد الأصدقاء أنه تناول يوما وجبة الغداء مع الشيخ عبد الباسط وقد أم المائدة كالعادة خلق كثير، فقد كان بابه مفتوحات ليل نهار للأقارب والغرباء. وبعد الغداء صلى بنا صلاة العصر ودعا طويلا دعاء ملئ قلوبنا وأفق الجلسة الطيبة، وقبل انفضاض المجلس دهمنا رجل بلا استئذان يبكي بحرقة وقد بللت الدموع وجهه وصاح متسائلا: أين الشيخ عبد الباسط؟ فأشرنا إليه، فحكى شكواه بأن والده مات بالمستشفى الآن وليس له فلس واحد لتحضير الجثمان أو لنقله لقريته ولا ما يستعين به على تكاليف العزاء.
وفجاة نهض الشيخ في همة عرف بها وأمر أبنائه وأهله بأن يخرجوا سياراتهم سريعا لمساعدة أخيهم في مصيبته، وقال إنه يوم كلنا له.
قابل الرجل صاحب المصيبة هذا النشاط الخير بقلق بالغ وأمسك بكتفيّ الشيخ عبد الباسط طالباً منه الترجل من السيارة، لأنه لا يريد أن يرهقه وأن المساعدة تكفي، ولكن الشيخ صاح فيه أي ارهاق تعني يا رجل؟! فهذا واجب ولا تحرمنا من كمال الأجر .
وكانت دهشة الجميع كبيرة حين رأوا الرجل صاحب المصيبة يسرع هاربا وهو يصيح غاضبا (أصِلكُم ما بتنغشوا) ضحك الجميع، ولكن الشيخ أمر مجموعة من الشباب أن يلحقوا به فأمسكوا به حتى مثُل أمام الشيخ وقد بدت عليه مخائل الانكسار. لاطفه الشيخ حتى سكن وعادت له سجيته ودس في جيبه مبلغا مقدرا وقال له مداعبا: والله إن دموعك تستحق أكثر من تكاليف الجنازة ولو شاهدك الفاضل سعيد لأعلن تقاعده .
وللشيخ حكايات ومناقب لا ينافسه فيها إلا الراحلين ابراهيم طلب وعمر علي عوض الكريم،
كما أن للرجل سيرة باذخة في العبادة والقيام وحب الصالحين والسعي في الليالي الشاتيات في الانفاق سرا على الأرامل واليتامى وأصحاب الحاجات.
والذي لايعرفه الكثير من أهل السودان أن قوات التمرد حين اقتحمت منطقة ود دكونة وأعملت فيها شرورها قتلا وسبيا وأسرا، جعل الشيخ عبد الباسط كل ما يملك من أموال وأملاك وموهبة في الكسب تحت تصرف المجهود الحربي وأمان السودان حين كشرت عن أنيابها وعز النصير.
عرفته وقد كان أثرى أهل السودان قبل الانقاذ، وقابلته بعد الانقاذ وهو يكدح في ما يغطي نفقته الشخصية ونفقة ضيوفه، ورغم ذلك كان بذات البهاء والاعتزاز القديم.
ومن المؤلم أن تمتلي مجالس الكذبة والجاحدين باتهامه وإخوته ومجايليه بالثراء والكسب المشبوه، مع أن أغلبهم نالوا من احسانه المخبوء رزقا وسداد دين وفك أسر وقيد وسجون.
رحم الله الشيخ عبد الباسط فبرحيله المر طويت صفحة ناصعة من صفحات الخلاوي وخدمة القرآن، وصفحة مباركة من صفحات الاقتصاد الملتزم والكسب الحلال. كما طويت صفحة مضيئة من صفحات الانفاق والكرم الذي لم يعرف يوما السمعة والمن والأذى.
ويكفي الرجل مجدا أن جمهرة الحفظة والمجّودين والتجار الصادقين والأبقياء الأخفياء واللائذين بالمعالي من أهل الدعوة والسياسة سوف يرفعون صوت الأسى عاليا (يكفينا فخرا أننا عشنا في زمان الشيخ عبد الباسط )
اللهم إن عبدك الشيخ عبد الباسط قد جاءك زاهد القلب، طاهر السريرة، بارا بعقيدته وأهله وبلاده، رطب الجنان واللسان بالقرآن. فتقبله قبول حسنا وأسكنه فسيح جناتك، واجعل منزلته في صحبة الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. “إنا لله وإنا إليه راجعون”.
حسين خوجلي
نسأل الله تعالى أن يجعله من أصحاب اليمين.