مقالات متنوعة

تحديات وحدة قوى الثورة السودانية


بقراءة متأنية لعجلة التاريخ؛ والاطلاع على مفاهيم الثورات فى الأدب السياسي المعاصر نرى جيداً أن للثورة مرتكزات متعددة لا يحدها مكان، وقد تتطور عبر الزمان.

تقول “چانت بولاسكى” فى كتابها “ثورات بلا حدود”: إن ثوار فرنسا استوعبوا تماما ما كان يعنى المحامى “جاك بيير بريسوت” عندما قال: “صرخة العالم من أجل الحرية” منوها إلى ترابط هذه الثورات ببعضها أواخر القرن الثامن عشر. انتقلت الأفكار الثورية من بلد أوروبي إلى آخر؛ وصولاً لشمال أمريكا وأصبح التراكم الفكري بلا حدود، مما جعل الفكر الثوري أحد أهم الركائز لإنجاح أى ثورة إذا توافرت العوامل الأخرى كتيار مثقف يحمل هذه الأفكار قبل أن يثور؛ وجماهير تساند الدعوة إلى الثورة وتقف معها بقوة.

رغم إرتباط ثورة ديسمبر المجيدة فى السودان بما حولها من ثورات وانتفاضات، غير أنها مازالت تعاني من ضعف فى بعض هذه المرتكزات الفكرية الواعية، مما جعل وحدة قوى الثورة تواجه صعوبات جمة.

تواجه قوى الثورة المكونة من التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني تحديات عدة تفوق تحديات الفترة الانتقالية، ذلك لأن الثورة ليس لها سقف زمني محدد.

‏رفع الثوار شعار (حرية، سلام وعدالة)، لكنه يعتبر منقوصاً لأن االتركيز كان فقط على إسقاط النظام، ولم يتحدث أحد عن الانعتاق. هذا الشعار خرج من رحم الشارع ، ورغم روعته واختصاره لمطالب الثورة، لكنه لم يتناول الرؤية السياسية العميقة في الانعتاق من براثن المستعمر القديمة والمتجددة، واتباع ما يأمر به بصورة غير مباشرة عبر وكلائه في المنطقة، باستخدامهم لبعض رجالات الطائفية الذين رضوا أن يكونوا قابعين تحت نفس الجلباب القديم، ولم تلحقهم نسائم الحرية والثورة حتى بعد ديسمبر. لذلك لا يقع اللوم على الشعب الثائر مثلما يقع على الساسة والمفكرين في تصحيح المفاهيم، لكن تبقى الأزمة ماثلة أمامنا في نكران وجهة النظر هذه؛ لأن فيها اتهام صريح لمن بيدهم أمر الفترة الانتقالية، والتي تعتبر مشاركة هشة بين المدنيين من قوى الحرية والتغيير والجيش؛ بما فيه مليشيات صنعها وساندها النظام السابق.

‏تبنى الشارع شعار (تسقط بس) الذي يرى فيه الكثيرون أنه هتاف رائع، أدخل الرعب فى نفوس الموالين للنظام، وأظهر مدى إصر الناس على إسقاط النظام. فى المقابل كان الإعلام الغربى على وجه الخصوص إذا ذكر السودان، يتحدث عن احتجاجات، وأن المشكلة ستنتهى بانتهائها، وعلى الناس الانتظار. كانت عبارة (تسقط بس) التي ترجموها لهم وأعان على نشرها الإعلام البديل. أنها تفتقر للرؤية السياسية، وهذه حقيقة رغم صدور بيان من قوى الحرية والتغيير بهاتين الكلمتين؛ مما جعل الكثيرين يتساءلوا عن ما بعد السقوط.

‏أظهر السياسيون تبنيهم لأهداف الثورة؛ وصدر إعلان الحرية والتغيير دون إسناده بعمل فكري يتبناه الشارع؛ مما خلق فجوة بين هذه الشعارات، وبين توقعات الثوار الذين كانوا هم وقود الثورة.

نتعلم من التاريخ أن الثورات لا تصل لأهدافها أثناء اشتعالها؛ أو بعد ترتيب أوراقها؛ أو حتى بعد إزالة النظام السياسي والاجتماعي والإقتصادي الذي ثارت الشعوب ضده، وخير مثال لذلك؛ الثورة الفرنسية التي وصلت إلى أهدافها بعد سنوات عديدة من اندلاعها. نظراً للصراع الفكري المؤجل القائم بين مكونات قوى الثورة وبدأ ظهوره جلياً بعد اسقاط النظام، زادت هذه الفجوة عند المكونات نفسها؛ لذلك لابد من وجود هدف سامي، مرتبط بالكرامة، والاستقلالية، والنظرة المستقبلية للدولة.

‏التف الناس حول إعلان الحرية والتغيير لأنه يعتبر جيد مرحلياً، ويمكن أن يصلوا به لما ترنوا إليه الجماهير المتعطشة للحرية، لكن الحرية التي ذُكرت فى الإعلان؛ ما كانت هي المطلب الأول، رغم ترديد الشعار.

التف الجماهير حول الإعلان ووقع عليه بعض من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، ونقابات وجهات فئوية أخرى تمثل الشعب، لكنهم لم يلتفوا حول تحالف قوى اعلان الحرية والتغيير بنفس القدر من الالتفاف حول الإعلان، وذلك رغم الاتفاق مع ما جاء في الإعلان، هناك آراء كثيرة حول بعض مكونات هذه القوى.

‏التبعية للمستعمر ووكلائه تعتبر من التحديات الماثلة، لأن الشعارات المطروحة لم تتناوله، رغم ارتباطه بمهددات الثورة من اتباع النظام البائد ورموز الثورة المضادة. أصبح جلياً أن سقوط النظام غير كافٍ للوصول لإرادة الشعب الثائر، حتى وإن تمت إزالة التمكين، وحوكِم كل سدنة النظام البائد.

عدم الرضا عن الاداء الحكومي للفترة الانتقالية، رغم المساندة الواسعة، ليس فقط بسبب الأزمات، إنما بمعرفة مواطن الخلل فى المكون السياسي المسلوب من الشق العسكري، الذي يُتهم بالارتزاق واتباع ما تمليه دول خارجية عليه، وحتى قبول القوات المسلحة بقائد يعتبره العالم أنه قائد مليشيات؛ أجرمت في حق مدنيين عزل في اقليم دارفور، قبل عسكرته وفرضه على السياسة السودانية عبر وثيقة شهدها العالم، وفرضتها على الشق المدني ظروف قد يجدوا المبررات. هذا الهدف الذي سيخلصنا من التبعية، يجب أن ينظر للإرث الحزبي السوداني مجتمعاً، ويحدد كل من له ارتباطات بهذه الدول ووكلائها فى المنطقة، ليصل إلى التعامل معها بسياسة المصالح التي تليق بدولة مدنية مستقلة ذات سيادة.

ما أصاب بعض الثوار من إحباط، وعدم رضا بمآلات الثورة؛ يعتبر نتيجة لعدم الكتابة المتأنية لأهداف الثورة، وانعدام تناغم الفكر الثورى فى الحالة السودانية. لا تكفي زيادة التركيز على إزالة مخلفات نظام عمل على مدى ثلاثة عقود، على تكريس الاستبداد والتمكين، في الوقت الذي كثرت فيه القوى التي ترى فى نفسها القدرة على الحكم، ولكن بالنهج القديم المجرب، متناسين مواطن الخلل الأساسية من التبعية قبل العدالة والسلام والحرية.

المجد والرحمة والمغفرة للشهداء فى ذكرى مجزرة القيادة العامة.

خالد طه

الراكوبة