رأي ومقالات

الشيخ القُوني .. رحلة مع القرآن الكريم !


الشيخ القُوني .. رحلة مع القرآن الكريم !
د. أسامة الأشقر
عن نحو 130 عاماً غادرنا رجل مبارك عظيم في مدينة الجنينة بغرب دارفور القريبة من الحدود التشادية اليوم… إنه “القوني” بُشَارة مصطفى، رجل القرآن في تلك البقاع الفاتنة، انهمك في تدريسه حتى آخر رمق من حياته التي كان يصفها بأنها قصيرة من قلّة العبادة، وأكثرُ ما أحزنني أن لقاءه قد فاتني رغم حرصي على ذلك واجتهادي فيه، إذ كان على سفر إبّان زيارتي لـ “دارَنْدُوكَه” في المرتين اللتين وصلتُ الجنينة فيهما.
لا ترى أحداً حافظاً لكتاب الله هناك إلا كانت لهذا الرجل النحيل المتواضع ذي اللحية الخفيفة يدٌ في تحفيظه في خلاواه أو في خلوته التي أقامها في داره آخر حياته، أو عن طريق أحد تلامذته الكثر.
هذا الرجل كان يكتب القرآن بخط مغربي قديم، بألوان مصنوعة على طريقة القدماء بمنحوت الأحجار الملونة والصمغ وسكن القدور والماء، يزيّن الصحائف بزخارف هندسية ملونة، وقد كتب هذا المصاحف بيده أكثر ، ويقال إنه كتب أكثر من 100 مصحف من حفظه، وأهداها إلى الوجهاء والعلماء المعتنين بتعليم القرآن، وأكثر كتابته برواية ورش عن نافع المدني.
رتبة القوني التي كان يحملها الشيخ من المراتب العالية في مجال القرآن في الممالك الإسلامية وسط إفريقيا كانت معروفة في ممالك وسط إفريقيا وغربها مثل مملكة غانة ومملكة مالي ومملكة كانم البرنو والخلافة الصُّكْتيّة وصولاً إلى مملكة التنجر والفور… وهي تعادل الشهادة العليا الماجستير أو الدكتوراه في علوم القرآن.
وهي شهادة يمنحها القوّانة (جمع قوني) في مشهد عظيم يحضره الناس كبراؤهم وعامتهم، وذلك بعد أن يختتم القرآن حفظاً متقناً ويكتبه عن ظهر قلب مرات عدة، ثم يتقن ضبط تجويده، وعدّ حروفِه، وطرق رسمه، وكلماته المكررة، والمواضع المتشابهة، والفروق بينها في السرد والضبط، ومواضع الوقف والابتداء، وتقسيم القرآن بأرباعه وأثمانه، وبيان مكية ومدنيه، وناسخه ومنسوخه… وأعظم ما في طريقتهم هي طريقة الحبال التي يعلّمون فيها كيفية ضبط الحفظ من خلال قَرن المتشابه في القرآن بألفاظ مختصرة جامعة.
وفي حقيقة الأمر فإن القوني يخضع لامتحانين صعبين: الأول في إتقان التلاوة وضبط الحفظ، والثاني في إتقان فن الحبال دون إخلال أو لعثمة أو تلكؤ، فإذا اجتاز هذه بحضور القوّانة رفعوه إلى مكان عالٍ، وألبسوه طاقية القوني وعمامته، واحتفلوا به أسبوعاً بالأذكار والأوراد المغنّاة وأشعار المديح في سرادق عظيم، وأجازوا له فتح خلوة يدرّس فيها كتاب الله، وزوّجوه وأكرموه.
وعبْر هؤلاء العظماء كان القرآن يمشي بين الناس، وتقام القرى والمراكز والأسواق حول خلواتهم، وينتشر الإسلام ومعه العربية في ربوع إفريقيا، وما زالوا على ما كانوا عليه.

د. أسامة الأشقر