مرافعة علي عثمان و(البردلوبة) مع وقف التنفيذ.. كواليس جلسة انقلابية مُؤجّلة (٢)
في تلك الليلة التي أسفر صباحها عن ٢١ يوليو ٢٠٢٠، صحى أحمد علي الفششوية من نومه باكراً، كانت أضواء المستشفى التي يتلقى فيها والد الشهيد همام علاجه تعانق خيوط الفجر، طلب ملابسه ليلحق ببقية المعتقلين في المحكمة، رغم أنّ حالته الصحية لم تكن تسمح بذلك، لكنه آثر أن يكون بينهم حتى لا ينسحب غيابه على المناصرة المعنوية، في وقت تم تجميع (٢٨) متهماً من أماكن مختلفة، داخل ثلاث حافلات مظللة بالكامل، وصلت خلال أوقات متقطعة، أفصحت عن مقدمها زغاريد الأهالي، ويبدو أن التجميع تم من سجن كوبر ويستبشرون ومشافٍ أخرى، إذ يعتبر غالب المتهمين بالانقلاب هنا يعانون مشاكل صحية بعد أن تجاوزوا العقد السابع من أعمارهم، بينما سؤال الانقلاب الذي تجاوز العقد الثالث ينتهي بنا إلى الفجوة المجهولة التي نحن بصدد القفز عليها.
في طريقي إلى المحكمة، عبرت شارع النيل، ودلفت من تحت كوبري الحديد إلى تفريعات القيادة، فكانت الشوارع عارية عن الكمامات، حيث انحسرت حركة السيارات المندفعة، وبدا أن تبعات الحظر وانعدام المركبات العامة خفّف وطأة الزحام، وساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية .
فكل ما اقتربنا من الشوارع المحيطة بالقيادة العامة تهللت ارتكازات الجيش الممسك بالسُّلطة من وراء قوى التغيير، ومما ساعد على تعزيز ملمح أقرب إلى العدم انطفاء التيار الكهربائي، بشكلٍ جعل الناس تلعن الظلام ومن أوجده وفق تدرج الظلامات، فيما كل شيء محكوم بالمشقة والغلاء، ما يذكر بالأوضاع نفسها التي خُلْع فيها البشير، إن لم تكن أسوأ بكثير، لجنة تفكيك التمكين أخذت صلاحيات جهاز أمن قوش، مشهد المزرعة أو رجال حول حمدوك يحاكي (السوبر تنظيم) الإسلامي، وفجيعة الولايات في المركز هي هي، مع تصدعات التحالف الحاكم، المناظر هي ذاتها، ونفس صوت الأسطوانة.
داخل المحكمة كان سبدرات يغني بلسان ويصلي بلسان، فهو الشاعر نفسه الذي لا يريد أن يكبر، بخلاف شيبة مولانا عصام محمد إبراهيم قاضي المحكمة الذي قرر تأجيل الجلسة لتحوطات صحية، وغياب بعض محامي المتهمين وهم (يونس محمود ـ فيصل مدني ـ عبد الله عثمان يوسف وعثمان أحمد حسن)، جميعهم يواجهون تهم تقويض النظام الدستوري، لكن ثمة مستويات للتاريخ، يصعب فرزها من الغموض الهائل قبل ليلة الجمعة التي طوت فيها مجنزرات الإنقاذ حقبة المهدي الأخيرة، إذ ترنو على نحوٍ متواتر ثلاثة مستويات من المسؤولية، وهي تدبير الانقلاب، التخطيط له، ومن ثم التنفيذ.
لم يظهر البشير داخل قاعة المحكمة للجميع، حتى إن الصورة التي انتشرت له برداء السجن أثارت حالة من الجدل، كان الرجل يرتدي نوعاً مختلفاً من الأزياء، بدلة ناصعة البياض بأكمام قصيرة، وقلم أزرق وكمامة تغطي نصف وجهه، إلى جانب العدسة الطبية، وجوارب على اليدين، وكان يتطلع في الكاميرات بملامح متجعدة قليلاً.
أثارت الصورة أيضاً فضولي، فهو قد خرج مسرعاً من قاعة المحكمة حتى إنني ولا أحد من المصورين تقريباً قد رمقه بنظرة، فلربما كان يجلس في زاوية معتمة، أو بقى في غرفة الانتظار داخل معهد التدريب القضائي، ما دفعني لإجراء عدة مكالمات، إحداها بلواء معاش في الشرطة كان يعمل في سجن كوبر، استفسرته عن زي المخلوع فقال لي: “هي بردلوبة، ربما تمت صناعتها خصيصاً له، لكنها ليست الزي المعروف لدينا في السجون، وهو زي مصنوع من الدمورية ليلائم أجواء السودان الحارة”، وأضاف اللواء الذي فضّل حجب اسمه ان المادة (٢٧) من لائحة السجون الفقرة (٧) تشير لاستثناءات شملت البشير، الذي يعتبر حالياً خارج مظلة السجون إزاء الأحكام السابقة، وكان من المقرر أن يخضع لدار رعاية اجتماعية، وفقاً للحكم الذي صدر في حقه مؤخراً.
وكشف المصدر عن معلومات مثيرة، قال فيها إن البشير يخضع لحكم مع وقف التنفيذ، وبالتالي من حقه أن يرتدي ما يشاء لأنه ما زال ضمن المنتظرين، وذلك نظراً لاعتذار ولاية الخرطوم عن استلامه، وهي المنوط بها تنفيذ حكم الإصلاحية الذي لا يوجد له زي محدد، إلا أن الولاية تذرعت بالظروف الأمنية، وتركته في كوبر. وقال اللواء إن السجون حالياً ليس لديها لبس محدد، وآخر لبس قبل سنوات كان اللون البُنى، يتم تميزه بالأصفر عند ذهاب المساجين لأشغال خارجية، وبالأحمر في حالة السوابق، نافياً أيضاً وبشدة أن تكون الصورة التي ظهر فيها علي الحاج والسنوسي بـ(العراريق) من داخل سجن كوبر. قائلاً: “لست متأكداً بالضبط، قد تكون في مستشفى أو ربما تكون فوتشوب، لكنها على كل حال ليست في كوبر”.
رداء الرئيس المعزول بدا أقرب إلى رداء حسني مبارك لحظة مثوله أمام القاضي، رغم أن الأخير ظهر ممدداً على سرير طبي مبالغاً في إظهار ضعفه يرخي جفنه بالوهن ثم يعود إلى فتحه مرة ثانية، يختلس نظرة بطرف عينه، إلى ما يجري من حوله، ناسياً كما قال الراحل محمد حسنين هيكل إنه حتى الوهن له كبرياء، كما أن إنسانية الإنسان ملك له في كافة أحواله، واحترامه لهذه الإنسانية حق لا تستطيع أي سلطة أن تنزعه منه، وهي الصورة غالباً الممعنة في الإهانة التي تجنبها البشير أيضاً طوال شهور الاعتقال والظهور أمام الكاميرات، لكنه لم يتجنب مصير الثورة المحمية بالجيش، منذ مغامرة اختياره الأولى خلفاً للعميد عثمان أحمد حسن، ليقود البلاد في الحقيقة رجل لم يكن يعرفه الترابي قبل ليلة التنفيذ إلى مصائر لم يكن يعرفها الشعب السوداني.
السماء مكتنزة بالسحب السوداء، كما أن كل شيء هوى على ثقله، الطبقة الوسطى، أعمدة النور واللافتات المضيئة، والنيل المنحسر، وتحت مزاريب السوق القديم ترى الناس يمشون مثل الأشباح، والسيقان تتوهّج، ولا يعبأ الشارع بما يجري من محاكمات لو لا أن التلفزيون القومي أدرجها في برمجته الطارئة، فيما قاعة المحكمة لم تكن رحبة، كانت مزدحمة بالأنفاس والهمهمات دون ما يعرف بالتباعُد الاجتماعي، فقال القاضي لأحد المتهمين ” الزول البيتكلم ورا، ما تتكلم، أستأذن أولاً هذه محكمة، ليكن معلوماً لديك” ومن ثم أملا قراره بتأجيل المحكمة إلى ما بعد إجازة عيد الأضحى .
الكلمات ليست كافية لتعويض حقيقة المشهد الذي أمامي، بدا علي عثمان أقصر في الحقيقة من صورته المعهودة، كان يراوغ الكاميرات لتجنب لقطة انهزامية، تغطي على الانطباع الذي حاول تصديره، وهو أن تطاول أمد الاعتقال لم يكسره، وهو لا يملك حالياً غير الابتسامة المبذولة، وقد التصق بالسياج الحديدي قليلاً ثم ابتعد لنصف خطوة، طلب منه شخص لم أتبينه فرصة ليتحدث إليه، فقال له بثقة “سوف انتظرك”، كان يرد التحايا بمثلها، اقتربت منه تحت وطأة زحام الخروج، قلت له سمعت أنك أصبت بكورونا داخل السجن كيف حدث ذلك ؟ فقال لي “أنا بخير كما ترى” قلت له بحكم خلفيتك القانونية هل سوف تترافع عن نفسك؟ فرد “إن دعا الأمر سوف أفعل”، قلت له هل تتابع ما يجري بالخارج؟ أومأ برأسه دون أن يقول نعم.. سألته عن مصادرة منزل الأسرة من قبل لجنة التفكيك؟ لست متأكداً إن كان قد سمع سؤالي بوضوح، لكنني التقطت عبارة “لا تعليق” بعدها دفعني الحرس إلى الأمام، فوجدت نفسي أمام نافع علي نافع ولمست منه رغبة أكبر في الحديث، وفجّر لي مفاجأة وهو يجيب على شائعة محاولة هروبه، والمحاكمة المنعقدة لهم، ورأيه في حكومة قوى الحرية والتغيير (…..)
نواصل،،،
عزمي عبد الرازق