مقالات متنوعة

تفاهمات السلام وأنفاس عرمان


لا أعتقد أن اثنين سيختلفان على حقيقة أن نائب رئيس الحركة الشعبية شمال / جناح عقار ـ ياسر سعيد عرمان هو شخصية حاوية لتجربة فريدة بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع أفكاره أو أطروحاته السياسية أو مواقفه … نشاطه الطلابي الشيوعي بجامعة القاهرة فرع الخرطوم ـ تمرده الذي كان مستغرباً حينها والبلاد في عهد ديمقراطي وانضمامه للجيش الشعبي ونشاطه الإعلامي المصاحب ـ قربه من د.قرنق ، دوره المحوري في تمدد التمرد إلى شرق السودان واحتلال همشكوريب ـ مشاركته في (أرخبيل) جولات التفاوض ـ علاقاته الخارجية المتعددة تحت مظلة الحركة ـ علاقته بملف دارفور ـ مساهمته في اتفاق السلام الشامل 2005م ـ تجربته في الشراكة الحاكمة (الحامية) بعد الاتفاقية – تجربته البرلمانية ـ إحباطاته بعد مقتل د.قرنق ـ عودته مرة أخرى للتمرد ـ وممارسته لدور العراب الأكبر في النشاطات التفاوضية تحت رعاية الاتحاد الإفريقي ورئاسة تامبو أمبيكي ـ المغلوب على أمره في كثير من الأحيان بأمر عرمان ـ وهلمجرا ..

دافعي لهذا الاستقراء والتحليل هو حدث اليوم الأبرز المتوقع بجوبا ـ مراسم التوقيع بالأحرف الأولى على تفاهمات السلام ـ بين الجبهة الثورية والحكومة السودانية ـ وعمود هذه التفاهمات هو اتفاق الترتيبات الأمنية الذي أجيز الأسبوع الماضي والذي وصفه عرمان في كلمته بمناسبة إنجازه بأنه (اتفاق تاريخي) .

لست مهتماً بتوزيع أنصبة الأهمية لصانعي هذه الاتفاقية من جانب الجبهة الثورية، لكن مما لا يدع مجالا للشك أن ثقل ونفس ياسر عرمان في اتفاق الترتيبات الأمنية واضح ونفاذ ـ وهذا ليس من باب (المكاجرة) أو المجاملة ـ فالمستقرأ أن ياسر ينتقل بسرعة من خانة المعارض المسلح إلى خانة السياسي صانع المشهد، وأنه يعيد تموضعه ويتطلع إلى دور (زعامي) جديد بتبنيه لأفكار وأطروحات جديدة ترمي بعيداً عن معارك (تحت الأرجل) ، ويفتح شبكة تجميع سياسي عريضة تتسم فتحاتها بمقاسات محددة لا تسمح بدخول (أصناف) مستهلكة أو مضرة ـ حسب زعمه ووصفه ـ الذي استشفيته منه في حوار سابق معه، وفي سبيل ذلك يستدعي كل تجربته المتنوعة ويوظف علاقته الجديدة مع أصحاب التأثير والنفوذ العالي في الراهن السوداني ليقوم بالمساهمة المحورية في رسم المشهد القادم لتحقيق (أهداف مشتركة) وأهداف خاصة.

بمهارة فائقة ومكتسبة يقوم عرمان بإحتلال أراضي الحلول والأطروحات السياسية على حساب مناوئيه في الجناح الآخر للحركة ـ فلم تبرح حتى الآن أطروحات وتصريحات مستشاري عبدالعزيز الحلو أمثال محمد جلال هاشم ومحمد يوسف أحمد المصطفى مرحلة (الصناجة) والمغالاة ، وهي بالطبع مرحلة لن يستطيعوا مبارحتها مادام شعار (الحل العسكري) مازال مرفوعًا أو نظرية (هذا أو الإنفصال) ظلت هي الطرح الماثل حتى الآن .

عبارة (القوات المسلحة وييي) التي هتف بها ياسر عرمان أثناء كلمته في مناسبة إنجاز اتفاق الترتيبات الأمنية الأسبوع الماضي، في اعتقادي أنها الدلالة الأكبر على رمي الرجل لأداة العمل المسلح ـ وبغض النظر أيضاً عن مفاهيم إعادة هيكلة الجيش أو الوصف الدقيق للعقيدة الجديدة ـ فالأهم والجيد عموماً للوطن هو الانتقال والارتقاء إلى سوح وسوق السياسية، وإن كان صراعاً على أسوأ أشكاله.

تبقّى النظر والترقب عموماً بعد دخول اتفاقية السلام بمحورها (الترتيبات الأمنية) إلى حيز التنفيذ، ومدى التغيير الذي يمكن أن يطرأ على الفترة الانتقالية بما فيه مصير هذه الحكومة الجاثمة الفاشلة (حسب توصيف قادتها) – ومع شيطان التفاصيل هل سيتم إقرار حاضنة سياسية جديدة، تفرز حكومة كفؤة تقود إلى نهايات التفويض الديمقراطي، أم سيخبئ المستقبل جديداً غير متوقع ؟؟ وإلى الملتقى.

مجدي عبد العزيز
السوداني