مقالات متنوعة

رجاء لا تحتفلوا!!

(1)
لا شك أن توقيع الحكومة الانتقالية وطائفة من الحركات في إقليم دارفور والمنطقتين اليوم في جوبا اتفاقاً “بالأحرف الأولى” يتضمن وثائق تفاهمات في ختام مفاوضات مطولة خطوة مهمة في طريق السلام الشامل تجد الترحيب اللائق بها، لكن سيكون من قبيل المبالغة الترويج لهذه الخطوة، على محدوديتها، بزعم أنها تعني السلام بالمعنى العريض والشامل الذي حملته شعاراً ثورة ديسمبر المجيدة، فلا أحد لا يعلم، الموقعون من الطرفين، قبل عامة الشعب أن هذا التوقيع على أهميته يبقى قاصراً عن بلوغ الهدف المنشود لتحقيق السلام العادل والشامل الذي ظل السودانيون ينتظرونه لعقود.
(2)
لا نريد أن نبكّت على أحد بهذا التعليق، وكل ما نريد قوله إن نضعه في سياقه وحجمه الحقيقي وتأثيره الفعلي، وهذا ليس تقليلاً من شأن الأطراف التي شاركت في هذا التفاوض، ولكن لأن الوضع الراهن في البلاد أخطر بكثير من أن يتم التعامل مع وقائعه المريرة بعقلية النظام السابق، الذي طالما انخرط في مفاوضات جزئية وأبرم صفقات ثنائية، وأقام الاحتفالات ابتهاجاً بعدد من الاتفاقات مع العديد من الفصائل المسلحة، تؤهله للتصنيف في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، فهل حقّقت تلك الاتفاقيات على كثرتها سلاماً؟ ومن يطلع على الوثائق التي سيتم مهرها اليوم بالأحرف الأولى فلن بجد فيها جديداً لم يطرق من قبل في اتفاقيات النظام السابق، ولا غرو في ذلك فكيف تتوقع اختلافاً موضوعياً إذا كان نهج التفاوض الجزئي القائم على عقد الصفقات الثنائية لاقتسام السلطة والثروة، ولم يكتف التفاوض هذه المرة، مع تغيير النظام، بالسير في الطريق نفسه، بل لم ينس حتى سنة الاحتفالات المهرجانية السيئة التي ابتدعها وسارت مثلاً لن ترى حكومة الثورة بأساً أن تحتذيه.
(3)
كيف يجوز للحكومة ولهذه الحركات إقامة احتفال تحت لافتة “السلام الشامل”، وقبل أن تبرأ جراح الاقتتال الأهلى في دارفور والمنطقتين، ها هو ينتقل إلى الشرق، وما الأحداث المتكررة التي شهدتها بورتسودان وكسلا وما خلفته من دماء زكية، والاحتقان القبلي المتزايد على نحو غير مسبوق سوى نذير شؤم بأن القادم أسوأ، ليس لأن ذلك قدر مقدورا لا مناص منه، بل لأن ضيق الأفق السياسي وبؤس الطبقة الحاكمة وعجز السلطة عن التحرك السريع لإطفاء هذه النيران، ومعظم النار من مستصغر الشرر، بقي هو دين الوضع الراهن، كما كان شأن النظام السابق، فكيف يستقيم أن نقيم احتفالا فارغ المضمون والمعنى، والبلد تواجه هذا الامتحان العصيب؟، حسناً لا أحد يمنع التوقيع على هذا الاتفاق، ولكن المسؤولية الأخلاقية، قبل الوعي السياسي، والحساسية الإنسانية، والمسؤولية القيادية تقتضي أن تكون هذه المناسبة للتذكير بعظم المخاطر التي تتهدّد السودان في وحدة شعبه وكيانه ووجوده، وللتفكير الجاد في كيفية التسامي عن المصالح الذاتية والحزبية الضيقة والعمل للتضحية بالطموحات الشخصية من أجل الوطن وليس المكاسب الشخصية.
(4)
من الخفة بمكان أن نخدع أنفسنا بإدعاء تحقيق معجزة سلام شامل في جوبا، وعلينا ألا ننسى أن هذه الأطراف كانت حتى قبل عام واحد يضمها تحالف قوى الحرية والتغيير، وما تم الاتفاق عليه اليوم كان من الممكن أن يحدث منذ العام الماضي، ولكن الصراع الداخلي والتنافس على كيكة السلطة بين الشركاء أدى لانشقاق الجبهة الثورية، لنعود بعد عام كامل لنحتفل بما كان من المفترض أن يكون تحت اليد، وهكذا يدور مصير السودان في حلقة مفرغة من أجل إرضاء النخب المتصارعة على السلطة.
رجاءً لا تحتفلوا، فلم يحن موعد الاحتفالات بعد، فالبلاد لا تزال أمام تحديات أخطر من تبديد الوقت الثمين في ترف مفتقر للحس السياسي السليم.

خالد التيجاني النور
السوداني