المواطن ورجل الأعمال بسبب الانهيار يتجه للتخلص من الجنيهات وتخزين قيمتها في اصول مثل العملات الاجنبية والذهب والعقارات
نقدنة العجوز تلد الدولرة:
الدولرة الرسمية تحدث حين تبدأ الدولة في الاعتراف القانوني بـالدولار الأمريكي مع العملة المحلية أو بدلاً منها في المعاملات الوطنية . تحدث الدولرة عادة عندما تفقد العملة الوطنية ميزتها كوسيلة للتبادل ، بسبب التضخم المفرط وعدم الاستقرار.
وعادة ما تؤدي الدولرة إلى استعادة الاستقرار النقدي والاقتصادي ، ولكنها تضحي بـاستقلال السياسة النقدية ولكن هذا ثمن غير زي بال في حال اثبات الطبقة الحاكمة فشل كامل في إدارة العملة والسياسة النقدية.
أجرت زيمبابوي اختبار الدولرة حين بلغ التضخم تحت الدولار الزيمبابوي 250 مليون في المائة في يوليو 2008. وأصبحت عملة زيمبابوي عديمة القيمة لدرجة أنها كانت تستخدم لحشو الأثاث وظهرت تحذيرات ضد استعمال ورق العملة لقطع الجمار في المراحيض العامة. نتج عن ذلك تبني شعب زيمبابوي العملات الأجنبية في الأعمال التجارية أو اللجوء إلى مقايضة سلعة بسلعة (طماطمة مقابل سيجارة). اضطر وزير المالية لاعلان تبنى الدولار الأمريكي قانونيا في الاستخدام العام في عام 2009 وتم مع القرار تعليق استخدام دولار زيمبابوي لاحقًا في عام 2015 .
نتج عن الدولرة على الفور انخفاض التضخم وشيء من استقرار الاقتصاد الكلي وتحقيق نمو اقتصادي متزايد. بالإضافة إلى ذلك أصبح التخطيط الاقتصادي طويل الأجل أسهل بالنسبة للحكومة والشركات واجتذب الدولار المستقر بعض الاستثمار. ولكن في عام 2019 ، اعادت زيمبابوي تقديم عملة وطنية جديدة اطالت من اسمها وقررت حظر استخدام الدولار والعملات الأجنبية الأخرى في يونيو. ونتيجة لذلك عاد التضخم الحاد، وعاد الاستخدام الواسع للدولار الأمريكي كعملة في السوق السوداء.
الدولرة قد يتم تبنيها قانونيا عن طريق قرار سيادي تتخذه الدولة أو تتم دولرة عملية وغير رسمية وغير قانونية كما يحدث كثيرا. إضافة لتجربة زيمبابوي فان هناك عشرات الاقتصادات المدولرة كليا, أي انها تستخدم الدولار فقط أو مدولرة جزئيا اذا كان الدولار واسع الدوران جنبا الِي جنب مع العملة الوطنية. نذكر من الاقتصادات المدولرة بدرجة أو باخري . من الدول التي تستعمل الدولار حصريا فيرجن ايسلاندز ,السلفادور لبنان العراق, جزر مارشال, ميكرونيزيا , بالاو. ومن الدول المدولرة جزئيا الأرجنتين, جزر البهاما, برمودا .كمبوديا , كوستاريكا, تيمور الشرقية , الإكوادور , هايتي , ليبيريا , بنما ,الصومال , أوروغواي وفنزويلا.
فيما يخص السودان, الاقتصاد مدولر جزئيا منذ العهد البشيري بما ان الكثير من المعاملات تتم بالدولار أو يتم تسعير الأصول والسلع الغالية بالدولار واحيانا يحظى المشتري بتخفيضات محترمة لو دفع بالدولار أو أي عملة اجنبية وتقوم الكثير من الشركات بتغيير الأسعار مع أي حركة للدولار . وبالأمس توقفت كبريات الشركات عن البيع حتى ينجلي امر سعر الصرف المتهاوي
ذكرنا سابقا انه في الظرف الطبيعي تخدم النقود كوسيلة لتبادل السلع والخدمات ، وكمخزن للقيمة، ووحدة محاسبة تحدد الأسعار النسبية (دجاجتي تساوي ثلاثة كيلو بطاطس). ولكن الطباعة المفرطة للعملة لتمويل الصرف غير الرشيد ادي لتلاشي قيمة الجنيه وغذي توقعات استمرار التلاشي ولذلك لم يعد الجنيه يصلح كمخزن للقيمة ولا كوحدة محاسبة وهذا يقلل من قيمته كوسيط تبادل تجاري.
في مثل هذا الانهيار يتجه المواطن ورجل الأعمال للتخلص مما لديه من الجنيهات وتخزين قيمته في اصول اخري مثل العملات الاجنبية والذهب والعقارات . ويفقد الجنيه ايضا المقدرة علي ان يخدم كوحدة محاسبة , فلو اقرضتك 500 جنيه اليوم اكون قد اقرضتك دولارين , ولكنك حينما تردها في اخر الشهر قد تكون قيمتها انخفضت لدولار واحد أو اقل . وهكذا.
في ظل الاوضاع الحالية سوف تتسارع وتيرة الدولرة وذلك لان الجنيه فقد المقدرة علي القيام بالوظائف المعهودة التي تقوم بها العملة. ونعني الدولرة بمعناها الواسع, فاستعمال الريال السعودي أو الدرهم الاماراتي هو ايضا دولرة لان قيمتهما ثابتة تجاه الدولار.
ونتيجة لذلك فقد ظهرت في السوق السوداني اعراض “دولرة ” مرشحة للاستمرار والانتشار . فمثلا هناك بعض السلع والخدمات تباع بسعر تفضيلي لو تم دفع الثمن بالدولار , وحتى بعض الجامعات تخفض الرسوم علي الطلاب أذا ما دفعوا بالعملات الاجنبية . وبعض الشركات تحدد للمشتري السعر (العربات مثلا) وتضمنه لمدة 24 ساعة فقط وذلك لان سعر الدولار قد يتغير بسرعة .وايضا فان تسعير العقارات وبالذات الفاخر منها يتم عن طريق الدولار وليس الجنيه . كما ان هناك قروض خارج النظام المصرفي بين رجال الاعمال يتم الاتفاق علي شروطها رجوعا لقيمة الدولار ( مثلا سوف اقرضك 250 مليون جنيه . قيمتها بسعر اليوم 100 ألف دولار علي سبيل المثال . وعليك بإرجاعها بما قيمته 100 ألف دولار في وقت السداد , فلو تضاعف سعر الدولار بحلول اوان الدفع , فسوف تسدد لي 500 مليون جنيه وهكذا).
بما ان ازمة الجنيه هي مجرد انعكاس مباشر لعدم مقدرة النظام علي زيادة مداخيله الحقيقية أو تخفيض صرفه وتمويل العجز المالي بطباعة العملة – فيما يعرف بنـقدنة العجوز – فسوف تظل مشكلة الجنيه غير قابلة للحل وسوف تستمر الدولرة غير الرسمية وتتوسع حتى لو قاومتها وحرمتها الحكومة.
لا يدعو هذا البوست الِي الدولرة, ولا يدعو لمحاربتها, ويهدف فقط الِي مشاركة المعلومة. وأيضا لا أتوقع دولرة رسمية قريبا ببساطة لان الدولرة تفقد الجهات النافذة التي تملك مطابع العملة بقرتها الحلوب التي تدر لها مليارات كل يوم علي حساب المواطن المقهور اقتصاديا.
د. معتصم الأقرع
حمدوكيشن
دولاريشن
انبرييييشن