سد النهضة: إثيوبيا تناور ومصر تخشى إطاحة أبي أحمد
بات ملف سد النهضة أسير الاضطراب داخل إثيوبيا أخيراً، مع طلب الحكومة الإثيوبية من مصر والسودان، بشكل مباشر وعبر وساطة قارية ودولية، التأني في استئناف محادثات حول سدّ النهضة، حتى يخرج رئيس الوزراء أبي أحمد من الأزمة السياسية الطاحنة التي يواجهها نظامه وحزبه الجديد “الرفاه”، بعد إعلان حكومة إقليم تيغراي سحب اعترافها بشرعية حكومته الاتحادية. مع العلم أن الاضطرابات الاجتماعية والميدانية مستمرة في إقليم أورومو، الأمر الذي يجعل أبي تحت ضغط أكبر قوميتين على مستوى التأثير السياسي في البلاد. ويأتي الطلب الإثيوبي في وقتٍ تمرّ فيه مفاوضات قواعد ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي بفترة جمود غير مسبوقة، بسبب صعوبة توصل الاتحاد الأفريقي إلى مسودة جامعة لشواغل جميع الأطراف والمقترحات التي من الممكن فتح نقاش حولها قبل نهاية العام.
ترفض مصر فكرة إطاحة أبي أحمد رغم خلافها معه
في سياق الطلب الإثيوبي، أفادت مصادر دبلوماسية مطلعة بأن السفير الإثيوبي الجديد بالقاهرة ماركوس تيكلي، طرحه خلال مناقشات دارت مع مسؤولين بالخارجية المصرية والمخابرات العامة الأسبوع الماضي. وهو ما قوبل بتحفظ على أمرين أساسيين؛ أولهما ضرورة وقف التصريحات الإعلامية الاستفزازية للمسؤولين الإثيوبيين، وثانيهما العمل على استئناف المفاوضات قبل نهاية العام الحالي، للتوصل إلى القواعد المنشودة قبل بدء الملء الثاني للسد والتوليد التجريبي للكهرباء بين فبراير/شباط ومارس/آذار المقبلين.
وأضافت المصادر أن الخلافات بين القاهرة وأديس أبابا تتمحور حول المفاوضات والاختلاف الجذري في الرؤى حول طبيعة الاتفاق الذي يجب التوصل إليه، وما إذا كان يتضمن قواعد ملزمة أو استرشادية. كما أن الخلافات تدور حول طبيعة الاتفاق ومركزه، مع تمسك إثيوبيا بحوار أوسع يشمل جميع دول حوض النيل (مصر، السودان، إثيوبيا، جنوب السودان، إريتريا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، بوروندي، تنزانيا، رواندا، كينيا، أوغندا). لكن على الرغم من كل ذلك، فإن دائرة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تؤمن بأن نظام أبي أحمد هو الوحيد الذي من الممكن العمل معه، وأن الإطاحة به ودخول إثيوبيا نفقاً مظلماً من عدم الاستقرار أو الصراع الأهلي، لن تكون في مصلحة المصريين، بل سيحرص أي زعيم يخلف أبي أحمد على سلوك سياسة أكثر تشدداً تجاه المطالب المصرية، لحصد الشعبية وتلافي الانتقادات واتهامات التنازل.
وذكرت المصادر أن هذه الرؤية تشترك فيها أيضاً الأطراف الكبرى القريبة من مجريات التفاوض كالولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي. كما تربط السودان علاقات قوية مع أبي أحمد، مما يجعل الجميع حالياً حريصين على عدم إحداث أي تحرك جوهري ربما يؤثر سلباً على استقرار حكم الزعيم الإثيوبي.
وفي المقابل؛ رفعت مكاتب بوزارة الخارجية تقارير تقدير موقف لرئاسة الجمهورية تحذر فيها من استمرار حالة اللاحرب واللاسلم في المفاوضات لمصلحة إثيوبيا، تحديداً مع عدم تأثر الجهود الدبلوماسية والدعائية التي تمارسها السفارات الإثيوبية بالخارج، وبصفة خاصة في الولايات المتحدة لحشد تأييد الدوائر السياسية المختلفة. كما حذّرت تلك المكاتب من تكرار استغلال أبي أحمد للصراع الداخلي للتهرب من الالتزامات الدولية، كما حدث مطلع العام الحالي بإفشال مفاوضات واشنطن، رغم التزام إدارة الرئيس دونالد ترامب بإنهاء المشاكل العالقة والتوصل إلى حل.
يجري استدراج الصين لأداء دور الوسيط بين إثيوبيا ومصر
وعلى الجانب المصري؛ كشفت المصادر عن حدوث أمرين خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي على مستوى الترويج السياسي في الخارج والتحضير الفني في الداخل. في الأمر الأول، فقد أبرمت المخابرات المصرية اتفاقاً منفصلاً مع إحدى الشركات، التي كانت قد تعاقدت معها لإجراء حملات علاقات عامة وترويج لتحسين صورة النظام في الولايات المتحدة منذ ثلاث سنوات. وقد أطلقت حملة تتضمن تنظيم لقاءات شخصية وندوات عامة ومغلقة ونشر تحقيقات ومقالات في بعض الصحف واسعة الانتشار في واشنطن ونيويورك، للتعريف بالموقف المصري في قضية سد النهضة. وهي خطوة تصفها المصادر بـ”المتأخرة” وتأتي بعد إبرام إثيوبيا عقداً بشأن حملة مشابهة تماماً منذ ستة أشهر. كما تأتي هذه الخطوة في أعقاب تعثر جهود الحشد التي قامت بها السفارة المصرية، بالتزامن مع مفاوضات واشنطن وتصعيد القضية لمجلس الأمن هذا العام.
أما الأمر الثاني، فيتمثل في انطلاق اجتماعات وندوات علمية بالمعاهد التابعة لوزارة الري، وبمشاركة أكثر من 20 أكاديمياً بالجامعات المصرية، وقيادات بالهيئة الهندسية للقوات المسلحة، لبحث المشروعات التي يمكن تنفيذها خلال السنوات العشر المقبلة لتخفيف الآثار السلبية لإنشاء سد النهضة والتعامل معه من منطلق كونه أمرا واقعاً. مع الأخذ بعين الاعتبار ارتفاع سقف الإنفاق المادي عليها والذي سيتم بمساعدات أجنبية وعربية.
وبحسب مصدر حكومي مطلع؛ فقد تم تقديم سبع أوراق تتضمن مشروعات لتطوير قدرة مصر على الاستفادة من المياه وتعظيم العائد من إعادة استخدام مياه الصرف، وأفكارا تتعلق بالمرحلة الثانية من مشروع تبطين الترع وتحسين أدوات الاستفادة من الآبار والمياه الجوفية بالمناطق الأكثر احتياجاً للمياه.
ومن المقترحات المعروضة بحسب المصادر، إنشاء منظومة مصرية لتحسين جودة المياه، التي من المنتظر أن تتأثر كثيراً سلباً نتيجة تخزينها لفترات طويلة، واستخدامها في إثيوبيا والسودان بعد إتمام إنشاء السد وتشغيله. مع العلم أن مصر كانت منذ إنشاء سد أسوان في القرن الماضي، تستفيد من تخزين مياه ذات نوعية متميزة ومحملة بعناصر مفيدة للتربة الزراعية، نتيجة ضعف قدرة البلدين على التخزين والاستخدام. وهو الواقع الذي سيختلف بمجرد تشغيل السد بسعته القصوى، تحديداً بعد تنفيذ السودان مخططه الذي لا بد منه لرفع كفاءة سدوده.
كما طُرحت على الاجتماعات مقترحات بتوسيع مفيض توشكي خلال فترة الرخاء، وزيادة الفيضان المتوقع استمرارها لسبع سنوات تقريباً بدأت في العام الحالي. كما طُرحت أيضاً أفكار تهدف لزيادة القدرة التخزينية للسدود الإقليمية الصغيرة بالمحافظات الرئيسية.
وفي منتصف أغسطس/آب الماضي، كشفت مصادر حكومية مصرية بمجلس الوزراء ووزارة الري لـ”العربي الجديد” عن اتفاقات وشيكة بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والقيادة الصينية، ومع الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، كل على حدة، على مجموعة من القروض والمنح “التي سيظل قسم كبير منها سرياً غير معلن”. وسيتم تخصيص القروض والمنح لمشروعات رفع كفاءة شبكة الري ومياه الشرب، وتحسين استفادة مصر من كميات المياه الواردة إليها وتنقيتها، وجلب نظم حديثة لتحسين الجودة والتحلية والمعالجة، بقيمة إجمالية ستفوق 350 مليار جنيه مصري (22.3 مليار دولار). وتمثل النسبة الأكبر من مبلغ إجمالي قدره 430 مليار جنيه (27.4 مليار دولار) لتنفيذ جميع المشروعات الخاصة بهذا المجال خلال 10 سنوات، على أن يتم تمويل 50 ملياراً (3.2 مليارات دولار) أخرى من النسبة الباقية من المساعدات والقروض الإماراتية والسعودية. وسيبقى حوالي 30 مليار جنيه (1.91 مليار دولار) سيتم تمويلها عن طريق طرح بعض المشروعات ذات العائد من تلك الحزمة، لدخول القطاع الخاص مع الشركات التابعة للقوات المسلحة.
وأضافت المصادر أن الصين كانت الدولة الأكثر تجاوباً مع الاتصالات المصرية في هذا السياق، استكمالاً للاتصالات التي أجريت بين الطرفين نهاية يوليو/تموز الماضي. ومن المتوقع أن تكون التقديمات الصينية إما بالضغط على الجانب الإثيوبي أو بتقديم مساعدات “كبيرة” لمصر، لمساعدتها على تلافي الأضرار المتوقعة بما لها من خبرات طويلة في التعامل مع قضايا الأنهار.
وتضمن العرض دخول الصين كوسيط مستقل لمحاولة تقديم حلول وسط بين الجانبين، على أن يتم إعدادها بواسطة أخصائيين فنيين تابعين للحكومة الصينية. لكن مصر فضلت آنذاك إرجاء خطوة التدخل المباشر بهذا الشكل إلى ما بعد انتهاء المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي. وطلبت أيضاً دعماً صينياً لجهودها في معالجة المياه، ورفع كفاءة تحلية المياه وإعادة استخدامها، وتحسين جودة مياه النيل ذاتها، من خلال جلب منظومات جديدة للتعامل مع أشكال من التلوث المتوقع دخولها على مياه النيل للمرة الأولى، بفعل التغيرات التي ستحصل على منظومتي الري الإثيوبية والسودانية بسبب السد، بما سيغير الطبيعة البيئية للمياه الواصلة إلى بحيرة ناصر.
باشرت القاهرة خطوات إعلامية للتسويق لوجهة نظرها في سد النهضة
وتؤكد التقارير الفنية خروج آلاف الأفدنة من الرقعة الزراعية على مراحل، ابتداء من عام 2022، وضرورة تخصيص مصروفات ضخمة لعلاج نتائج التطور الذي سيطرأ على استخدامها للأغراض الزراعية والصناعية والتنموية في كل من إثيوبيا والسودان، من استخدام مكثف للمبيدات وزيادة كميات الصرف الصناعي والزراعي في حوض النيل.
وما زالت هناك خمس قضايا أساسية يجب حلها للتوصل إلى اتفاق نهائي على المستوى الفني لقضية سد النهضة. أولها عدم وضوح برنامج الملء المستمر والدائم للسد، وثانيها حجم التدفق اليومي من السد، والذي سيصل إلى سد الروصيرص بالسودان، حتى لا تتأثر السلامة الإنشائية للأخير، مع تمسك الخرطوم بأن يكون التغير في حدود 250 مليون متر مكعب فيما تقترح أديس أبابا 350 مليوناً. القضية الثالثة تتمثل في عدم الاتفاق حتى الآن على حجم التدفق العام في فترات الجفاف والجفاف الممتد، والذي تقترح مصر أن يكون 37 مليار متر مكعب كرقم وسط، بين ما تطالب به إثيوبيا وهو 32 مليارا وما كانت تطالب به مصر وهو 40 مليار متر مكعب، على أن يُترك الرقم الخاص بأوقات عدم الملء والرخاء لآلية التنسيق بين الدول الثلاث. أما القضية الرابعة فمتعلقة بغياب خطة إثيوبيا للاستخدامات الخاصة بالمياه، سواء كانت مخصصة لإنتاج الطاقة أو الزراعة أو غيرها. في المقابل، فإن القضية الخامسة والأخيرة، متعلقة بضرورة الاتفاق على معايير قياس امتلاء سد النهضة (وسد السرج الاحتياطي المجاور) مجتمعين، والربط بينه وبين سد الروصيرص والسد العالي. وهي مسألة تراها مصر ضرورية، في حين تراها إثيوبيا مدخلاً للربط بين السدود وهو ما ترفضه.
أما القضايا القانونية التي مازالت عالقة فهي: عدم التوافق الكامل على مدى إلزامية الاتفاقية التي سيتم توقيعها، وثانيها عدم التوافق على آلية فض المنازعات التي ستنشأ مستقبلاً حول تشغيل السد والملء، وثالثها رغبة إثيوبيا في تحويل الاتفاقية إلى اتفاق للمحاصصة في مياه النيل وإلغاء اتفاقية 1959 بين مصر والسودان، ورابعها وأحدثها رغبة إثيوبيا في انتزاع موافقة مصر والسودان على إقامتها مشروعات مائية أخرى على مجرى النيل الأزرق وتطبيق القواعد الاسترشادية الخاصة بسد النهضة عليها، الأمر الذي ترفضه مصر نهائياً.
العربي الجديد