مقالات متنوعة

أنا والأشواك

في علم المناعة هناك تفاعل فوري للجسم عند حدوث أمر طارئ ..عادة يحدث التفاعل في خلال 12 دقيقة من بدء الظاهرة الغريبة.. توقفها عند حدها او على الاقل يجري تعريفها لكي يستطيع الجسم التعامل معها بعد ذلك ..ثم يأتي تفاعل آخر يدعي تفاعل الحساسية المتأخر ..ويحدث في خلال 48-72 ساعة من حدوث الظاهرة ..كنت دائماً ما استخدم تعبير المناعة المتأخرة لكل من يأتي بردة فعل بعد فوات الأوان ..او قرب نفاذ الوقت ..رغم ان المناعة المتأخرة مناعة تخصصية تقضي على المرض او الظاهرة الدخيلة وتحملها في الذاكرة فاذا حدث وان أتى ذات الهجوم مرة أخرى سيكون رد الفعل المناسب جاهزاً وسريعاً وحاسماً.
فكرة المناعة المتأخرة للاسف لا تحدث عندنا في السودان ..اذ اننا كل مرة تؤلمنا ذات الأشواك التي وخزتنا قبل فترة خلال مشينا على ذات الدرب ..لا احد يرتدي حذاء مناسباً ..ولا أحد يميط الأذى عن الطريق ..ولا حتى يفكر أحدنا ان يغير الاتجاه ..نعيش ذات المأساة كل مرة ..ونتفاعل بذات الطريقة ..ونظل في انتظار (المدفعية عطبرة ) التي لا تأتي أبداً.
في بلادي لا يزال التعبير عن الاختلاف جريمة ..ولا يزال الخروج للهتاف بسلمية مصيبة تتم مكافأتك عليها بالموت ..اذا كنا في العهد البائد نعاني من الكبت وتجبر القوة العسكرية وهواننا عليهم بحيث لا يكلف رأس احدنا رصاصة بي (سبعة جنيهات) فما الذي تغير؟ اذا كانت التظاهرات تقابل بذات الوحشية والعنف ؟ وماذا تغير اذا كنا لا نستطيع الخروج عزلاً في تظاهرة سلمية عادية ؟..تظاهرة يتم فيها التعبير عن الغضب ومن ثم يعود الجميع الى منازلهم في نهاية اليوم ؟ صعبة دي ؟ ..
يبدو انها كذلك بدليل ان كل تظاهرة لابد ان يكون لها قتلى وجرحى ومن ثم أسف واعتذار خجول من السلطات يأتي دائما بعد فوات الأوان !!..شهيد الجريف الذي لحقه آخر توفى بعد تأثره بجراحه ..شباب كانت لهم أحلام وآمال ..تم القضاء عليها في لحظات ..هل كان ممكناً تلافي هذا الأمر؟ ..لو اننا أخذنا العبرة من الأحداث السابقة ؟ لو ان لنا ذاكرة كذاكرة المناعة الداخلية المتأخرة ؟ ..لا تزال جراح أهل الشهداء مفتوحة وكل فترة ينضم اسم آخر للقائمة التي لا تنتهي ..ولا أحد يعتبر او يتذكر ..ولا أحد يقول حتى متى ؟
أهالي الجريف عندما اغلقوا كبري المنشية فعلوا ذلك بكل اليأس الذي في العالم ..وكان من الممكن تدارك الامر وامتصاص الغضب العارم لو سارع الجهاز التنفيذي الى هناك وقدموا اعتذارهم عن القتل الخطأ ووعدوا برفع الحصانة عن ذلك النظامي الذي فعل هذا الامر ..وتقديمه الى محاكمة عاجلة علنية ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه الاستخفاف بحياة الآخرين واللعب بسلاحه كيفما يشاء وحينما يشاء ..لكن ذلك لا يحدث للأسف ..ولا يهتم أحد بالامر ولا بتبعاته ..والنتيجة ان الجرح يتعمق ..والاحساس بالظلم والتجاهل يزيد ..والمتاريس تعلو ..والحياة تتعطل ..ولا حياة لمن تنادي ..
متى يعلم المسؤول في بلادنا ان عمله الأهم يجب أن يكون حياة الناس والمحافظة عليها ..؟ متى يعلم هؤلاء انهم يجب ان يكونوا رهن اشارة الشعب وليس العكس ؟ متى يتعبد الطريق الذي نسير فيه ويصير خالياً من الأشواك التي توخزنا صباح مساء ؟ متى..؟
الجريدة
د ناهد قرناص