غياب التنسيق وضبابية الرؤية
* وقفت طويلاً أمام الدعوة الحكيمة التي أطلقها الرئيس الأمريكي المُنتخب جوزيف بايدن، عندما طالب الشعب الأمريكي بتجاوز حالة الانقسام العاتية، التي صاحبت واحدة من أكثر الحملات الانتخابية تنافساً وحِدةَ في التاريخ الأمريكي.
* وعد بايدن بأن يكون رئيساً لكل الأمريكان، لأن مؤسسة الرئاسة عنده ليست حزبية، ولأنه لا يرى لوناً أزرق ولا أحمر في خريطة أمريكا بعد الفوز، بقدر ما ينظر إلى مصالح بلاده، ويتعامل مع كل مواطنيه على قدم المساواة، ويسعى لخدمتهم بلا استثناء، بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية وتوجهاتهم الانتخابية.
* تصريحات مسؤولة، تدل على نُضجٍ سياسيٍ تام، ووعيٍ شاملٍ بضرورات المرحلة ومتطلباتها.
* ما أبعد ساستنا عن ذلك النهج الواعي المُتزن، العامر بالحكمة والروح الوطنية الحقَّة.
* انظروا إلى ما يحدث في مؤسسات الحكم الانتقالي في بلادنا، لتروا عِظم الفارق بين النهج الذي وعد بايدن باتباعه في تصريف شئون دورته الرئاسية، وبين طرق عمل ومناهج تفكير ساستنا.
* عندنا يغني كلٌ لليلاه، وتعمل كل مؤسسةٍ من مؤسسات الدولة بمعزلٍ عن الأخرى، وتتصادم المواقف وتتعارض، لأن ساستنا، (كحال غالب ساسة العالم الثالث) يقدِّمون أحزابهم على أوطانهم، ويمنحون المواقف التكتيكية أولوية على المصالح الاستراتيجية العليا للدولة.
* لننظر إلى ما يحدث في محوري السلام والتطبيع، لنرى كيف يتم تغييب مؤسسات الدولة عنهما، وكيف يُدار أهم ملفين بمعزل عن الجهات المعنية بهما، لتسود الفوضى والفردية، وتتبدَّى العشوائية في أسوأ صورها.
* بدأت مسيرة التطبيع باجتماعٍ مثيرٍ للجدل، جمع الفريق أول عبد الفتاح البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مدينة عنتبي اليوغندية، وحينها كانت كل مؤسسات الحكم الانتقالي خارج إطار الصورة، بدليل أن رئيس الوزراء أنكر علمه بالاجتماع، وتبعه مجلس الوزراء، الذي أكد أن البرهان لم يطلعه على الخطوة المثيرة للجدل قبل إقدامه عليها.
* صحيح أن البرهان عاد ليضع مجلس السيادة والسلطة التنفيذية في الصورة بعد الاجتماع، لكن اللقاء نفسه أشار إلى اتساع الشِقَّة بين رئيسي المؤسستين، وأوضح انعدام الحد الأدنى من التنسيق بينهما.
* لاحقاً أقدم رئيس الوزراء على توقيع اتفاقٍ مع عبد العزيز الحلو، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، أعلنا فيه التوافق فصل الدين عن الدولة، وتم ذلك قبل الحصول على موافقة مجلسي السيادة والوزراء على الاتفاق، ومن دون إطلاعهما عليه، مثلما تم تغييب المجلس الأعلى للسلام عن الخطوة تماماً.
* قبل ذلك أقدم د. حمدوك على مخاطبة مجلس الأمن الدولي، طالباً إنشاء بعثة سياسية خاصة من الأمم المتحدة، تحت الفصل السادس لدعم السلام، وتم ذلك بمعزل عن أي تنسيق مع المُكِّون العسكري في مجلس السيادة، ومن دون علم مجلسي السيادة والوزراء.
* لذلك لم نستغرب وصف الفريق أول شمس الدين الكباشي لرئيس الوزراء بأنه (خارج على مؤسسات الدولة)، مثلما لم يفاجئنا وصفه لاتفاق الحلو وحمدوك بأنه يمثِّل عطاء من لا يملك لمن لا يستحق، لأن الحركة الشعبية نالت به أكثر من ما تتمنى، وفوق ما ترجو وتطلب.
* العجز عن تنسيق المواقف امتد إلى الورشة التي نظمها مجلس الوزراء بمعية ثلة من الخبراء المنتمين للحركة الشعبية في أديس، وكان من المفروض أن تناقش (علاقة) الدين بالدولة، فإذا بها تتحول إلى مناقشة (فصل) الدين عن الدولة، مما تسبب في فشلها.
* لن تصل الفترة الانتقالية إلى شواطئ الأمان، ولن تكتمل مسيرة التحول الديمقراطي في بلادنا ما دامت مؤسسات السلطة الانتقالية متناحرةً ومتصادمة، وما دام شركاء الحكم متشاكسين، وعاجزين عن تنسيق المواقف وتجسيرها، في أهم الملفات وأعقدها.
* لا نرى أي ملمح من ملامح الشراكة الناجحة بين المدنيين والعسكريين بعد مرور أكثر من عام على توقيع الوثيقة الدستورية، التي قُدَّت من قُبلٍ ومن دُبرٍ قبل أن يجفَ حبرها، وتعرضت إلى خروقاتٍ عديدةً، أضعفتها وقضت على فعاليتها، قبل أن يتم تعديلها مؤخراً، بمعزل عن المجلس التشريعي، الغائب عن مشهدٍ سياسيٍ (مجوبك) ومرتبك.
مزمل ابو القاسم – صحيفة اليوم التالي