بعد رحيل الإمام الصادق المهدي من يضع الحجر الأسود؟
وما كل ما يمضي يكون افتقاده جليلا
وما كل السيوف المهندا
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
(1)
الى جنات الخلد الزعيم الصادق المهدي، إمام الفكر ومستودع الحكمة، وسدانة الثقافة والتسامح، وحقا رحل آخر الكبار والعظماء الذين تضرب لهم اكباد الإبل ويشد إليهم الرحال كما كتب الأخ ضياء الدين بلال،وقد رحل الإمام الصادق بعد أن طرح مشروع العقد الاجتماعي لبناء الأمة والدولة السودانية على هوادي الديمقراطية وسيقان دولة القانون.
ورحل قبله الشيخ والزعيم الترابي بعد أن طرح مشروع الحوار الوطني الشامل لتحقيق الوفاق الوطني والهبوط الديمقراطي الآمن وكان قلقا من احتمال تفكك وانهيار السودان لأنه يدرك انه بلد لم ينسج على منواله ثوب، فرحل وكانت اخر كلماته(اريد الاطمئنان على السودان قبل أن يتوفاني الله)
(2)
ورحل قبله الزعيم والحكيم محمد إبراهيم نقد وهو يهفو للسودان الديمقراطي الذي يسع كل التمايزات الاثنية والدينية والايديولوجية. وتسوده العدالة ودولة القانون والمؤسسات.
(3)
ورحل قبله الدكتور جون قرنق وهو يتوق للسودان الديمقراطي الجديد، الذي تسود فيه قيم السودانوية هوية، وثقافة، وأمة من نمولي الى حلفا. ورحل قبله الزعيم عبد الخالق محجوب الذي كان يهفو لترسيخ ومأسسة المشروع الوطني الديمقراطي بذات الادوات الديمقراطية الصبورة والدؤوبة والبطيئة والمستمرة ، وكانت اخر كلماته قدمت للمجتمع السوداني الوعي الوعي بقدر ما استطعت
(4)
ورحل قبلهم ابكار قيادات الحركة الوطنية السودانية (أزهري، المحجوب، خضر حمد)، بالطبع فقد اختلف آباء الحركة الوطنية في الآليات والحواضن الفكرية والتنظيمية ولكنهم اتفقوا جميعا في خلاصات التجربة أن الحرية نور ونار ومن أراد نورها فليكتوي بنارها، وان المشروع الديمقراطي في السودان لن تكتمل لبناته الا بمزيد من نشر الوعي والثقافة الديمقراطية.
(5)
كما تعلمون فقد قدم الله سبحانه وتعالى تراكم المعارف والحكمة قبل السلطان والملك لأنها قيم تلهم أهل الحكم وقادة المجتمعات على الاستيثاق والوعي مع قضايا الحكم وإدارة الدولة فقال تعالى (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما)،وبالطبع فقد صاحبت تجربة هؤلاء الكبار الأخطاء في التعاطي مع أزمة الحكم والنظام الديمقراطي وقديما قال الشاعر الروماني هوراس أن الزعماء يخطئون كما يخطيء الفلاسفة حتى هوميروس يخطيء، ولكن حتما لا ينتهي شيء بصورة مشرفة ما لم ينته بشكل أفضل مما بدأ عليه، لأن استمرار الفجوة في الذاكرة السياسية الوطنية حتما ستؤدي لانعدام الإلهام والعبر من تراكم التجارب السياسية بل وستؤدي إلى تكلس وتبلد الحس السياسي.
(6)
كان الإمام الصادق المهدي كما يقول ديكليرك مثل رجل القدر الذي يعلم أن وراء التل تلالا وتلالا فرحلة الحياة عنده لا تنتهي، ومن خلاصة تجربته الثرة والمتراكمة كان يدرك ان مشروع الوحدة الوطنية، والديمقراطية المستدامة لن يتعمق في التربة السودانية بفش الغبينة، والذهنية العدمية والأدوات الصفرية بل بالتسامح والحوار، والحوار البناء والمثمر لذلك طرح الاستهداء بتجربة جنوب افريقيا المرتكزة على قيم الحقيقة والمصالحة حيث لا محاسبة ولاعقاب للمخطئين، بل إزالة للاحزان وابراء للجروح الوطنية وتداعي وتعاهد كل القوى السياسية الوطنية على نبذ العنف وإنهاء الدورة الشريرة في الحكم، وصيانة المشروع الوطني الديمقراطي المستدام حتي يستوي في مؤسسات الدولة وشعاب المجتمع.
(7)
عندما تواثقت العشائر القرشية في مكة على تجديد بناء الكعبة المشرفة وبعد اكتمال قواعد البنيان كادوا أن يقتتلوا في شرف وضع الحجر الأسود في موضعه ولكن حكمة الكبار ونضج تجربة القادة هدتهم إلى الحل الذي جنبهم حرب الكل ضد الكل فكانت عبقرية الحل أن يضعه اول قادم إلى الكعبة من باب بني شيبة، فكان القادم هو محمد ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب ذرية بعضها من بعض في الحكمة والقيادة، وهدته حكمته إلى خلع عمامته ووضع عليها الحجر الأسود، وطلب من كل عشيرة قرشية انتداب قائدا لها للمشاركة في شرف رفع الحجر الأسود إلى موضعه.
(8)
في اعتقادي أن أزمة الحكم والديمقراطية في السودان تماثل عملية وضع الحجر الأسود في موضعة، وان تراكم الصراع حول هذه القضايا انتج حالة من النضج واحتشاد للحلول وتبقى فقط وضع الحجر الأسود السوداني في موضعه، وكنت قد كتبت مقالا في بدايات الثورة السودانية أن حكمة وتسامح ونضج وثراء تجربة الإمام الصادق المهدي تؤهله لقيادة مهام الانتقال الديمقراطي والوفاق الوطني والعبور إلى مرحلة الانتخابات الحرة والشفافة،وبعد رحيل الإمام والزعيم الصادق المهدي فإن وضع الحجر الأسود السوداني في موضعه يستدعي من القوى السياسية الوطنية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار التحرر من الانا، وذهنية الصراع، والعصبيات العرقية والقبلية والإقليمية والايديولوجية، والقيادة الجماعية،والأهم أن وضع الحجر الأسود السوداني في موضعه يحتاج إلى إرادة وطنية وعزم الرجال العظماء، وصلابة الآباء المؤسسين للمشاريع الوطنية التي تؤسس للوحدة الوطنية ودولة النماء والرفاه والنهضة التي تسع الجميع.
والا فالسلام على السودان.
عثمان جلال – صحيفة الانتباهة