الإنسان والمَدينة والثورة.. قراءات في يوم تخطيط المدن
م.أ.د. إبراهيم زكريا بحرالدين*
مرت علينا في نوفمبر الماضي ذكرى الاحتفال باليوم العالمي لتخطيط المدن، والذي يُعْرَف في بعض الأحيان باليوم العالمي للعمران. هذا اليوم الذي تم تخصيصه لإقرار وتعزيز دور التخطيط والمُخَطِطين في صناعة مجتمعات مرنة ومستدامة وقابلة للعيش. تمر علينا احتفالية هذا العام وبلادنا تتلمس خطواتها في فترة ما بعد ثورة ديسمبر المجيدة وقد وفدت اليها، مثقلة بالتحديات الحضرية غير المسبوقة، للتذكير بأهمية مواجهة المخاطر الكبرى التي تواجه مدن البلاد، ومنها تلك التحديات المكانية على مختلف الأَصْعِدة: ديمغرافياً وبيئياً واقتصادياً واجتماعياُ.
وبصفتي أحد ساكني المدن السودانية وكمحترف في مجال العمران، لطالما راودتني الشكوك في العلاقة بين سكان المدينة من ناحية ومدينتهم من ناحية أخرى. فالغياب الواضح لدور المدينة في صناعة مجتمع متماسك ومكان عام يسع جميع أفراد المجتمع يمَكّن مدينة الخرطوم من الحصول على براءة اختراع في هذا المجال، خاصة في مجالات كالإسكان وعدالة الوصول للخدمات والنقل. وللأسف فان المنهج الحالي للتخطيط العمراني في السودان يساعد في التأطير لذلك الاقصاء من خلال فرز المواطنين إلى فئات أو طبقات اجتماعية، وتصنيفهم وفق درجات عمرانية متمايزة أو منفصلة. وهكذا، فإن هذا التصنيف الاجتماعي-المكاني غير المنصف يخلق هويات منفصلة، استنادا إلى مستوياتها الاجتماعية أو الاقتصادية أو الديموغرافية داخل المجتمع الأوسع. وبالتالي، يصبح المجال العام الحضري موضع نزاع بين الأيديولوجيات المختلفة، ومكان مناسب للصراع غير المتكافئ مما يؤدي إلى انخفاض عام في استخدام الأماكن العامة.
على المستوى القومي للبلاد تبرز قضيتا العدالة والانصاف من جانب وهوية المدن من جانب آخر كاثنتين من أهم تحديات العملية التخطيطية. ومع إمتناع مدينة بحجم الخرطوم عن أن تكون ساحةً للتفاعل العام للمجتمع بحيث تصنع “فضاءً أنثروبولوجياً”، يشعر سكانها حالياً بالعزلة أكثر من أي وقت مضى. ويتضاعف هذا الإحساس عند النازحين وساكني العشوائيات والفقراء والنساء وكبار السن والمعاقين والأطفال. ولذلك، فأن المشكلات الأكثر خطورة للمدن السودانية في الوقت الراهن، ليست هي حركة المرور، أو التلوث، أو الضوضاء، ولا هي مشكلات الازدحام وارتفاع تكاليف المعيشة- والتي يواجهها الجميع بطريقة أو بأخرى. ولكن المشكلة الأخطر هي الهزيمة الماثلة بفقدان شعورنا بالانتماء لذلك المكان الحضري. هذه الهزيمة لا يمكننا أن ننجو من آثاراها بدون منهج تخطيطي تشاركي تفاعلي يضمن دمج الجميع في عملية انتاج وصناعة القرار.
وتعد كتابات بورسيل وهارفي وليفبيرف عن الحق في المدينة من أهم ما كتب في مجال الحقوق الحضرية والعدالة والانصاف. ويجادل بورسيل بأن الحق في المدينة يشمل حقين أساسيين لسكان الحضر: الحق في المشاركة، والحق في تشكيل هوية المدينة. وفي حين يُفَسًر الحق في المشاركة “بأن يلعب المواطن دوراً محورياً في أي قرار يسهم في إنتاج الحيز الحضري، فإن الحق في تشكيل المدينة يتضمن “حق السكان في الوصول إلى الحيز الحضري وشغله واستخدامه مادياً”. وللأسف، فان جُلَ الممارسات التخطيطية الحالية تتجاوز تلك الحقوق إمّا بفعل التشريعات أو بفعل الممارسة. فتشريعات التخطيط العمراني ومنها قانون التخطيط العمراني والتصرف في الأراضي للعام 1994 لا يوفر أي إطار لمشاركة المواطن في عملية التخطيط باستثناء “حق المعرفة” بنية الحكومة ممارسة العمل التخطيطي. أمّا فيما يتعلق بالحق في الوصول للحيز الحضري وشغله واستخدامه، فلا توجد أي مظلة تحمي المواطن من عدم مهنية أو ضعف الممارسة وعجز التشريعات رسميةً كانت ام اجتماعية من توفير الحماية لهذا الحق. وعليه، تحولت كثير من مدننا إلى مجتمعات مُجرّدة بفعل خصخصة الأماكن العامة، حيث تُفصل المناطق الغنية والفقيرة بشكل متزايد وإن كانت بحواجز غير مرئية، وأصبحت إمكانية وصول الفقراء إلى المرافق والبنى التحتية التي كانت تملكها تلك المدن مقيدة أكثر فأكثر.
عملية التخطيط ورسم السياسات الحضرية هي عملية مهمة وينبغي استخدامها بطريقة مدروسة لتمكين الفئات المستبعدة وبناء المجتمع المدني. وعليه فإن تخطيط المشاريع العمرانية والتدخلات الحضرية يجب أن تُمَكّنْ تلك المجموعات في المدينة على أن تعمل نحو حلول تشاركية والتأطير للتعايش السلمي، وينبغي أن تكون عملية التخطيط داعمة للمشاركة المجتمعية ومساندة للتواصل بين مختلف المجتمعات الحضرية. مشاركة المجتمعات في المداولات واتخاذ القرار لتحديد مستقبلها الحضري له أهمية حيوية لأنها تنمي الفكر الديمقراطي في الممارسات اليومية.
ناقش المفكر الفرنسي هنري ليفبيفر في مؤلفين من اهم إنجازاته العلمية وهما “الثورة الحضرية” و “كتابات عن المدن”، ناقش قضية تَطَلّعْ بعض المؤسسات الرسمية وغير الرسمية لتغيير الحقوق الاساسية الي سلع وذلك من أجل السيطرة أو التأثير على المجتمعات. ما ناقشه ليفبيفر يشرح بالضبط ما حدث وما زال يحدث لدينا في كثير من المدن السودانية. حيث يلاحظ غياب كامل أو عدم كفاءة للمؤسسات التعليمية والصحية الحكومية. مع اتجاه كبير لتخصيص الخدمات الحكومية بالتخصيص المباشر أو بالإيجار لفترات زمنية طويلة في أحيان أخرى. تلك الظواهر كانت نتاج لتطبيق سياسات الليبرالية الجديدة والتي تأصلت في الخرطوم في أعقاب الأزمة الاقتصادية عام 2011 بسبب انفصال جنوب السودان والتي ارتبطت بتغييرات هيكلية جذرية في سياسات التخطيط والتصرف في الأراضي أفضت لاعتبار الأخيرة سلعة يتم تداولها كما النقد في السوق العام.
من جهة أخرى، يتضح جليا من خلال تعامل مجتمعاتنا المحلية مع جائحة الفيروس التاجي (كوفيد-19)، غياب التخطيط على المستوي المحلي. فكان من الواضح استحالة تطبيق الحجر الصحي على مستوى المجاورات بل والاحياء السكنية لعدم جدارة تلك المكونات العمرانية على توفير الخدمات الأساسية عبر ذلك المستوي الإداري أو التقسيمي للتخطيط. ومن المفارقات أنه وعلى الرغم من أن ثورة ديسمبر المجيدة لم يكن ليكتب لها النجاح لولا مجهودات الاحياء السكنية ممثلة في لجان المقاومة، إلّا أن الحاضنة العمرانية لتلك اللجان (المجاورات السكنية) والتي صمدت امام بطش وطغيان نظام فاسد – لم تصمد لحظات في وجه الجائحة وترتيباتها المتعلقة بالإغلاق والتباعد الجسدي. وفي إعتقادي أن هناك فرصة كبيرة تلوح في الأفق ترتبط بتجديد الدماء وتعزيز دور التخطيط العمراني علي المستوي المحلي، وذلك بمساعدة هذه اللجان. هذه الفرصة لا يمكن تحقيقها الا بالتأكد من التمثيل الحقيقي للجان المقاومة ورفع قدراتها لتعمل على البناء بمستوي يقارب قدراتها التي أسقطت بها واحدة من أكبر الدكتاتوريات في العالم الحديث.
وفي أعقاب ثورة ديسمبر المجيدة والتي ارتبطت عمرانياً باعتصام القيادة التاريخي – والذي شكًل إعلاناً حقيقياً للرفض الشعبي لنظام فاسد ولسياساته المتعلقة بتصميم وتخطيط الفضاء العام الحالي، فانه من المتوقع أن تلعب المدن دورا عظيما في صوغ ملامح الواقع الحضري المأمول على أساس شعارات الثورة وهي – الحرية، والسلام، والعدالة. وبالتأكيد يمكن أن تفضي تدخلات وسياسات التخطيط في المدن إلى صناعة أدوار داعمة بل وقيادية في بناء وتعزيز الحريات والسلام والعدالة على الصعيدين الإقليمي والوطني. هذا الدور لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الانخراط في تخطيط القطاعات التي تعالج القضايا الراديكالية والأساسية للصراع في السودان وإبتدار حوار مفاهيمي متعدد الأقطاب. فهوية المدينة ينبغي ألا تكون وليدة اللحظة بل هي نتيجة حوار معرفي محوره الانسان والمكان.
من أهم التساؤلات التي تدعو للوقوف عليها في هذا اليوم الاحتفالي بالمدن والعمران هو: من يخطط للمدن السودانية المستقبلية؟ والاهم من ذلك من يخطط المدن السودانية الاَن. هذان التساؤلان ورغم عموميتهما الاطارية إلا انهما يدعوان الناس للتأمل والتفكير في اثنتين من أكثر قضايا التخطيط في السودان تعقيداً رغم بساطة مكوناتها – وهما قضية تعليم التخطيط وقضية ممارسة المهنة. فيما يتعلق بتعليم التخطيط فهناك الكثير من التحديات التي تجابه هذا التخصص غير المعروف في المجتمعات السودانية. ولذلك لا توجد حتى اللحظة إلا مدرسة واحدة تقدم برنامج البكالوريوس في التخطيط على مستوى السودان. هذه المدرسة تعاني الأمرين من عدم إعتراف المجالس المهنية المحلية بها، وبالتالي ضياع خريجيها ما بين مستسلم للوضع ومهاجر يحلم بوضع أفضل. هذا الظرف جعل عددا كبيرا من المؤسسات التعليمية تتردد في طرح درجات علمية في هذا المجال المهم لصعوبة وتعقيد عملية الاعتماد الوظيفي لهذه المهنة، خاصة وأن المخدم الرئيس فيها هو القطاع الحكومي ممثلا في وزارات التخطيط العمراني بالولايات المختلفة.
من جهة اخري مَثّلْ غياب المؤسسة المهنية التي تحكم وتضبط الممارسة والممارسين بوابة لجعل المهنة غير واضحة المعالم. وأصبحت مهنة التخطيط مستباحة من قبل عدد كبير من غير المتخصصين او المختصين غير الملمين بمهارات وأخلاقيات الممارسة. ولذلك غاب عنصر الالتزام بميثاق أخلاقي ومهني يحفظ الحقوق بين شركاء المهنة ويضبط الممارسة. وأرتبط ذلك بعدم وجود جهة تحاسب على الممارسات غير المهنية أو غير الأخلاقية. ولهذه الأسباب ظهرت كثير من التجاوزات في مشاريع مختلفة بمختلف الوزارات والمكاتب الاستشارية. وللأسف لا توجد هناك تشريعات تحمي المهنة أو المواطن من جُور المهنيين (بزعمهم) من جهة، والافتقار للاحترافية من جهة اخري، ومن هنا تتبين الضرورة الملحة والعاجلة لتكوين تنظيم مهني يضبط وينظم المهنة والمهنيين.
التحديات التخطيطية الماثلة حالياً أكبر من قدرات الحكومات المحلية الضعيفة أصلاً خاصة في مجال التخطيط والاستراتيجيات الحضرية. ولا يمكننا بأي شكل من الاشكال قراءة التحديات الحضرية التي تعاني منها مدننا حاليا بمنحى عن قضايا العدالة الاجتماعية خاصة التحديات المتعلقة بالنقل العام والوصول والسكن وقضايا النزوح والعشوائيات. ولا نستثني قضايا الحريات العامة والمشاركة المجتمعية. وللأسف وجودنا كمخططين في المدن السودانية مرتبط بأن يتم استدعاؤنا فقط عندما لا تكون الأمور في نصابها الصحيح. أو لا يتم الاستدعاء على الاطلاق كما هو الحال الآن. ولا يخفى على المتمعن في المشهد الحضري ببعده الاستراتيجي انشغال الساسة ومتخذي القرار في بلادنا حاليا على أمر إدارة وتشغيل المدن أكثر منه من تكوين رؤية مستقبلية صادقة للمشهد الحضري.
اليوم العالمي لتخطيط المدن هو فرصة لتوحيد المخططين والاحتفال بالتخطيط في جميع أنحاء العالم وتشجيع دور التخطيط والمُخطِط في خلق مجتمعات متماسكة وصالحة للعيش الكريم. المهمة الماثلة امامنا الآن هي من أكثر المهام الحاحاً وتعقيداً فيما يتعلق بكيفية ضمان جودة حياة أفضل للمواطنين والتي ستحدد مصير ملايين السكان في العقد الحالي. ونحن نعيد بناء مدننا ومجتمعاتنا في فترة ما بعد الثورة والتي تتزامن مع انتهاء الموجة الأولى لجائحة الفيروس التاجي (كوفيد-19)، لدينا الفرصة لإعادة تقييم توجهاتنا حول كيفية العيش والتفاعل مع مدننا، وذلك عبر ترسيخ مبدأ مدن مستدامة وقابلة للعيش وتسع الجميع.
* (جامعة الملك عبد العزيز-جدة)
صحيفة التغيير