صديق البادي يكتب: محطات قصيرة مع المفكر الراحل الامام الصادق المهدي
الانتباهة او لاين
الرئيسية/المقالات
السودان: صديق البادي يكتب: محطات قصيرة مع المفكر الراحل الامام الصادق المهدي
ديسمبر 2, 2020
عندما سمعت النبأ الأليم برحيل الامام الصادق المهدي من دار الفناء لدار البقاء تبادر لذهني علي الفور مطلع قصيدة المحجوب التي رثى فيها الامام عبد الرحمن المهدي :-
العيد وافي فأين البشر والطرب والناس تسأل أين الصارم الذرب
وهذا ينطبق أيضاً علي الامام الصادق المهدي الذي ظل على مدى خمسة وخمسين عاماً هو عميد السياسة السودانية وكان نجمها الساطع ومركز الدائرة وقطب الرحى فيها بكل منعطفاتها ومنعرجاتها وتقلباتها وكان لسان حاله يردد قول المتنبئ :-
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
وعاصر ثلاث حكومات انتقالية بعد ثورة أكتوبر عام 1964 م وانتفاضة رجب ابريل في عام 1985 م والسلطة الانتقالية الحالية . وأمضى في منصب رئيس الوزراء تسعة أشهر في الديمقراطية الثانية وفي المرة الثانية أمضى في منصب رئيس الوزراء ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر في عهد التعددية الثالثة أي أن كل فترة حكمه في العهدين كانت أربعة أعوام فقط وأمضى ثمانية و أربعين عاماً في المعارضة إذ انه كان معارضاً لحكومتي المحجوب في الفترة بين عامي 1967م و 1969 م وعارض نظام مايو لمدة ستة عشر عاماً وعارض نظام الانقاذ لمدة ثلاثين عاماً وتخللت معارضته للحكومات في تلك العهود فترات مهادنة . ولم يجد الفرص الكافية في الحكم لتطبيق برامجه وخططه . والحقيقة الساطعة انه كان محبوباً سواء كان حاكماً أو معارضاً وفي كل مكان يحل فيه كان يسمع الهتافات الداوية عاش الصادق أمل الأمة – ولن نصادق غير الصادق .والتقيت عدة مرات قبل سنوات في دار الوثائق القومية بشاب من أبناء النيل الأبيض كان يعد في رسالة دكتوراه وبعد فترة رأيته في احتفال شرفه الامام الصادق وكان الشاب يلوح بعصاه في الهواء ويهتف بحماس مع الهاتفين بصوت يعلو علي أصواتهم (عاش الصادق أمل الأمة – ولن نصادق غير الصادق) . وقبل سنوات طويلة عاد السيد الصادق من الخارج بعد المصالحة الوطنية التي أجراها مع الرئيس الراحل جعفر نميري في عام 1977 م واستقبل استقبالاً حاشداً في المطار واحتشد الأنصار وغيرهم باعداد ضخمة و استقبلوه في مسجد الخليفة وفي قبه الامام المهدي وخاطب الجموع الغفيرة و ردد قول الشاعر :-
إذا احتربت يوماً وسالت دماؤها تذكرت القربى فسالت دموعها
وبعد عودته للسودان بعد السنوات التي قضاها في الخارج بعد خروجه في (تهتدون) استقبلته عند عودته جموع غفيرة من المواطنين . وكان يقوم بزيارات خارج العاصمة لمناطق نفوذه وغيرها من المناطق وعندما يزورهم يعتبرون يوم زيارته لهم عيد سعيد يستعدون له ويستقبلونه استقبالاً حاراً بكل الحفاوة والكرم الفياض والهتافات الداوية باسمه وليست لهم مطالب خدمية أو تنموية أو مادية يطلبونها منه فهو بلا سلطة ويكفيهم رؤيتهم له بطلته المشرقة وسماعهم لكلماته التي تبعث فيهم الأمل وتزيل الألم وتقديرهم له نابع عن حب عفوي صادق وهو انسان متواضع دمث الاخلاق .
والامام الصادق هو عدة شخوص في شخص واحد .. الصادق السياسي والصادق المفكر والصادق الرياضي والصادق الإنسان المتواضع المتواصل والمختلط مع الآخرين في أفراحهم و أتراحهم ومناسباتهم الاجتماعية …الخ وقد قضى سنوات طويلة في المنافي والسجون ولكنه لم يبدد وقته هدراً وهباءً منثوراً واستثمر زمنه فيها وتفرغ للقراءة والعلم النافع والتحصيل والبحث والكتابة والتأليف وقد فعل الرئيس الجزائري الأسبق احمد بن بيلا مثله بعد أن أطاح نائبه بومدين بحكمه و وضعه في الحبس والإقامة الجبرية لمدة خمسة عشر عاماً متصلة تفرغ فيها بن بيلا لحفظ القرآن الكريم وتلاوته وتجويده وقراءة كتب التفسير والتعمق في كتب الفقه و السيرة مع القراءة بعمق في اللغات و مختلف العلوم والمعارف وعند فك أسره وخروجه من محبسه وسجنه بعد وفاه بومدين كان بن بيلا عالماً فقيهاً حافظاً لكتاب الله سبحانه وتعالى وتفرغ للدعوة الإسلامية داخل الجزائر وخارجها و ترأس منظمة إسلامية عالمية كان نائبه فيها هو السيد الصادق المهدي الذي عرف بأنه كاتب مجيد صاحب قلم سيال وترك إنتاجاً فكرياً وفيراً غزيراً وكتب في السياسة والتاريخ والعلاقات الدولية والدراسات والفكر الإسلامي وفي الآداب والفنون والرياضة والاقتصاد والاجتماع والفلسفة والامثال و العادات السودانية … الخ وكان يتمتع بقدرات تعبيرية هائلة بالقلم والكلم وهو محدث بارع وفارس المنابر والخطابة والكتابة الذي لا يجارى ولا يبارى … والكاتب الموسوعي الممتع الأستاذ انيس منصور الذي كان من اقرب المقربين للأستاذ محمود عباس العقاد كتب ونشر عنه كتابه في صالون العقاد كانت لنا أيام وذكر الأستاذ انيس أن أساتذة الجامعات وطلابها كانوا يطلبون من الأستاذ العقاد أحياناً أن يأتي لإلقاء محاضرة مفتوحة يؤمها الأساتذة والطلبة وكان يلبي دعواتهم ويشترط عليهم الا يذكروا له عنوان المحاضرة والموضوع الذي يطلبون منه التحدث فيه إلا عندما يعتلي المنصة التي يلقى منها محاضرته ويبهرهم ويشد انتباههم ويجذب اهتمامهم ويتدفق في ضخ العلم والمعارف من ذاكرته الوقادة دون أن يقرأ من ورقة وكذلك فان الامام الصادق بثقافته الموسوعية كان يشترك في ندوات ويقدم محاضرات في شتى فروع المعرفة ولكنه كان يحضر الموضوع الذي يريد التحدث فيه ويفصل موضوعه لفقرات فيها أرقام وحروف . وهو الكاتب الأول في حزب الأمة بلا منازع والمسافة شاسعة بينه وبين الآخرين ولا نقمطهم حقوقهم وفي الحزب كتاب لهم بصماتهم ولمساتهم مثل الأستاذ أمين التوم والأستاذ عبد الرحيم الامين المعلم ودكتور ابراهيم الامين …الخ ولكن من حيث الكم والنوع فان ما قدمه الامام الصادق في هذا المجال بمفرده يفوق ما قدمته مؤسسات لها ميزانيات كبيرة وكوادر متفرغة عديدة ولبنات الامام مساهمات مقدرة في هذا المجال والمهندسة رباح الصادق كاتبة صحفية مقتدرة و موثقة مدققة (لها رأي حول ما ينشر وما ينبغي حجبه في جزئية معينة تتعلق بحدث تاريخي / سياسي مضى عليه أكثر من أربعين عاماً وهي وجهة نظر مقدرة ) والسيدة ام سلمى الصادق أيضاَ لها مساهماتها المقدرة وقرأت لها مؤخراً صفحة كاملة نشرتها بالرزمانة التي يكتبها الأستاذ كمال الجزولي و انا حريص علي الاطلاع علي الرزمانة أما دكتورة مريم الصادق التي درست الطب والقانون فان لها قدرات كتابية ولكن الخطابة عندها تغلبت علي الكتابة …. وإن الامام الصادق في مجال الفكر يعتبر هرماً شامخاً و ما تركه من عطاء ثر و متنوع في هذا المجال هو ناتج وحصيلة مثابرة وصبر و جهد ذاتي (ضرب ضراعو ) وليس للحزب فضل عليه في هذا المجال ولكنه يشرف الحزب ويضيف اليه. ومثله تنسب انجازاتهم وبصماتهم ولمساتهم لهم كأفراد افذاذ ومفكرين متميزين ولا تنسب لحزب أو لتنظيم مثل الأستاذ العقاد و دكتور طه حسين ودكتور عبد الله الطيب ودكتور منصور خالد …الخ أما مسيرة الامام السياسية الطويلة فهي تحتاج لوقفة طويلة وهي مسيرة فيها بينه وبين الأخرين اتفاق واختلاف و هذا شي طبيعي في مجال السياسة . وخاص الامام معارك سياسية كثيرة ولسان حالة يردد قول عبدالله الطيب الذي خاض بدوره معارك قلمية وفكرية كثيرة :
اروم من الزمان مداً بعيداً وحدت عن القتال ولا محيدا
هذه لمسات عابرة وسترد التفاصيل وتفاصيل التفاصيل عن الامام في كتاب قادم إن شاء الله
لقد مضى في تاريخ العالم في شتى أقطاره و أمصاره حكام كثيرون أسدل ستار النسيان عليهم ولكن الفكر يبقى حياً نابضاً وما تركه الامام المفكر من ثروة معلوماتية ثقافية وفكرية ضخمه ستخلد ذكراه وتفيد الحاضرون و القادمون في لاحق الاجيال من بعده وينطبق عليه قول الأستاذ الريفي :-
حتى و إن حكم القضاء ولم تعد *** من أصدر الأمر الكريم ومن نهى
لم يبلغوا شأواً بلغته وما لهم *** حكم علي سلطان البلاغة والنهى
وكم انتهت دول وولى حاكم *** ومثال ما أوتيت باق وما انتهى
والعزاء لأسرته الكريمة ولجميع آل المهدي و للأنصار وجماهير حزب الأمة وللشعب السوداني العظيم وتحية خاصة وعزاء لسكرتيره الوفي النبيل المخلص المهذب الأستاذ محمد زكي الذي كان إبناً محباً له وباراً به …أمطر الله على قبره شآبيب رحمته وجعل قبره روضة من رياض الجنة.
صديق البادي – صحيفة الانتباهة