مزمل ابو القاسم

(يا حليلو)


* في نفسي لتُوتي حنينٌ لا يفتر، وعشقٌ لا يقاوم، حتى راودتني النفس بأن أسكنها وأقرُّ فيها، كي أغازل ضفافها المغسولة بماء النيل صباحَ مساء.
* كثيراً ما ألجها لأطوف حواريها، وأتجوَّل في أزقتها الملأى بالحنين، وأملّي عينيّ من جمالها الأخاذ، أدخلها عبر الجسر المُعلّق بلا استئذان، وأغادرها من دون أن تطأ قدماي أرضاً حباها المولى عز وجل بجمالٍ أخّاذ، واصطفاها بموقعٍ بديعٍ، وحضنٍ دافئ لذراعي النيل، يزخر بالمحبة والحنين.
* سحنات ساكنيها تنبئ عن طيبةٍ فطريةٍ، وأخلاقهم القويمة تنبعث في الأجواء مِسكاً من تَرِكة الأنبياء والصالحين.. مجتمعها مترابطٌ، وأهلها متحابون، لا يعرف الخصام إليهم سبيلاً.

* من خرير مياه النيلين، وأصوات السواقي، وشقشقة العصافير، وأنين الزرع تحت ضربات المناجل، ولون الليمون، وطعم المانجو الحالي، واخضرار (البرسيم) وُلد صوت حمد الريح، وانطلق ليملأ الزمان والمكان، ويجمّل صباحات أهل السودان، ويطرِّز مساءاتهم بالبهاء والطيبة والمحنة.
* كان وسيم الطلعة، أنيقاً بلا تكلف، فارع الطول برغم قامته القصيرة التي تومئ إلى عمق ارتباطه بتلك الجنَّة الصغيرة.
* حمل اسم أحد أولياء الله الصالحين (حمد ود أم مريوم) مثلما نال شقيقه اسم (خوجلي)، ولا يكاد بيتٌ في توتي الحبيبة يخلو من أحد الاسمين اللطيفين، أو يتردد فيه كلاهما، فالأهل هناك مُعتزون بنسبهم الشريف، وانتمائهم العفيف لأهل الله، حُراس نار التقابة؛ والقرآن (فجرياً تضج به لهى وصدور).
؛ * افتتنت بصوته الصدّاح منذ بواكير الصبا، وترنمت معه من أرض الجزاير؛ والمراكب والطنابير الترِن: (حليل الراحو.. خلوا الريح تنوح فوق النخل.. حليل الراحوا لدار الأهل بدون؛ أهل).

* كان صوته الشجي متفرداً، يبث الطرب في نفوس المُحبين من ثنايا حنجرةٍ مُترعة بالشجن، تأخذك إلى طيات السحاب بلا جناحين، وتطوف بك في عوالم النشوة بلا استئذان.
* غنى بالعامية فأجاد، وأدى بالفصحى فأحسن.. وُلد في ساحة الفن من يومه الأول كبيراً، وازدادت هامته سمواً بتعامله مع الكبار، فحملت (طير الرهو) بصمة بن البادية الطروبة، وحروف سماعين ود حد الزين الندية.. وتميزت بخلاف لحنها البديع باستهلالية جديدة وقافيةٍ عجيبة، إذ ابتدرها شاعرها الفحل بقسمٍ مُغلّظ (والله يا طير الرهو.. قَسَماً عديل ما فيهو لَوْ).
* (كسرة) الأغنية البديعة في خواتيمها تُحرّك البشر والحجر والشجر طرباً (يا سلام لمن نسالم نبقى شوق طير طائر مُعربد.. يستحيل شلال عواطف في قليب عاشق مغرد.. زي تميراً في الشمال لمن يفيض النيل يفرهد.. تنتشي الدنيا وتزعرد.. والنسيمة الحلوة تسبقنا وتنقر بابنا كَوْ.. كَوْ.. يا سلام يا سلام).
* يا سلام يا حمد.. أحقاً رحلت؟
* مرَّ بصوته الشجي على (تايه الخُصل) مع وردي، فصنعت الثنائية المدهشة لوحةً فنيةً تداعب السحر قبل أن تمر على ثنايا الشَعر المُرسل، لحبيبة نزار، وتشدو (إلى مسافرة).
* ما تغنى حمد بقصيدةٍ إلا ذاعت وحلقت بصحبة (حمام الوادي) في كل ربوع السودان، وترددت في كل المدن والفِرقان، لتملأ أرض الناس الحُنان بالحنان.

* بأمر حمد عرفنا أدب صلاح، وسرينا معه في عوالم الخيال مع (مَرِيّا)، وعرفنا قمة الأولمب، وخبرنا للمرة الأولى آلهة الإغريق، وبريميثيوث المُعذّب، ثم غنينا معه للحبيبة (أحلى منك قايلة بلقى)، وتلونا لها (الوصية)، وتساءلنا في حضرتها بمنتهى المحبة (لو عارف عيونك).
* كانت وما زالت لي مع (شقى الأيام) ذكرى وفكرة، ظلت تتردد في الدواخل وتترسخ أكثر كلما مرت عليها الأيام، أجترُّ معها ذكريات الصبا، وأستعيد لحظاتٍ حلوةٍ رسخها الحنين، وشابتها المودة الصافية.. ليتها تعود، إذ صادفت قلباً خالياً فتملكته، وسكنته إلى الأبد.
* لم تقتصر مواهب حمد على الغناء والتلحين، فقد كان مجيداً في كرة القدم، موهوباً بالفطرة، بدرجةٍ أهلته لارتداء شعار المريخ، لاعباً لا يشق له غبار، وقد امتد ارتباطه بالشعار الأحمر طويلاً، فظل حريصاً على التواصل مع أهله، وإحياء مناسباته بمحبةٍ غامرةٍ، عمقت محبة صوته الشجي بين أنصار النادي الكبير.
* احتضنت حياض الموت حمد، فملأت النفوس بالوجع، وخلّفت جرحاً لا يبرأ.. ويتجدد نزفه مع كل (صولةٍ وكسَرة)، تتردد من حنجرةٍ صداحةٍ لا تعرف الركون إلى الفناء.
* مات حمد والموت حق.. (يا حليلو).

مزمل ابو القاسم – صحيفة اليوم التالي