فرص العبور و حواجز الدم
د. حيدر معتصم
(2)
لما كانت السياسة تُعرّف بأنها فن الممكن بإعتبار أن الإذعان للجلوس و التفاهم و الحوار هي اللغة الوحيدة القادرة على معالجة تحديات الخلاف و الإختلاف بين الناس سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الأحلاف و التحالفات الإقليمية والدولية، و قد جربت البشرية منذ فجر التاريخ و مازالت تجرب أساليب أخرى غير لغة الحوار لمعالجة مشاكلها مثل التآمر و الدسائس و الحروب و الإقتتال على جميع الأصعدة السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و الأمنية من أجل الوصول لأهدافها فلم تجن إلا الدمار و الهلاك و الخراب و الأمثلة على ذلك كثيرة منذ قابيل و هابيل، و تعلمت البشرية من كل ذلك و بعد جهد جهيد بِألا حلول لصراعاتها و خلافاتها و إختلافاتها إلا عبر السلام و لغة الحوار و التفاهم حتي أصبحت للحوار مدارس و فنون و لغات تدرس، و رغم التطور الكبير و الخطوات الهائلة التي خطاها العالم نحو السلام و لغة الحوار إلا أن هناك كثير من الشعوب مازالت ترزح تحت سقف وهم القوة و البطش و التنكيل بالأخرين و تعيش في عصور الإحتراب و الإقتتال و تصر على معالجة خلافاتها و إختلافاتها بلغة العضل و السلاح و التآمر و الدسائس التي أثبتت التجربة البشرية و التاريخ بأنها نوع من الدوران حول دوائر مفرغة من الدمار الشامل و الهلاك .
بكل أسف ظلت التجربة السياسية السودانية لعقود طويلة و ما زالت رهينة لتلك التجارب البائسة من تاريخ البشرية في تعاطيها مع إشكالات الواقع الراهن حينها من خلاف و إختلاف على منطق القوة و الإلغاء و رفض الآخر و نفيه و عدم الإعتراف به و الإصرار على شيطنته بطريقة أشبه بطرق ممارسة الثأر التي تتبعها بعض الشعوب المتخلفة داخل مجتمعاتها في أخذ حقوقها و التي بسببها و من أجل أخذ حق روح أزهقت أو بيت أحرق أو مزرعة دمرت مثلا تزهق أرواح و تحرق بيوت و تدمر زروع و هكذا يستمر العداء بين مكوناتها في حالة من الدوران المدمر لسنين طويلة على نهج داحس و الغبراء و كثير من قصص التاريخ الغابر و الحديث عن الحروب التي شهدتها البشرية و ما خلفته من مأسي و أثار سالبة علي مجتمعاتها.
ظل الصراع السياسي في السودان منذ تأسيس الحركة الوطنية في الربع الأول من القرن العشرين صراعا قائما على منطق القوة و عدم قبول الآخر على المستوى الإستراتيجي لا التكتيكي و ظل السودان على الدوام مسرحا كبيرا لإستعراض العضلات السياسية التي تكاثرت و تناسلت و فرخت إقتتالا عرقيا و قبليا و جهويا و مهنيا ممتدا عبر الحقب المختلفة و أصبح السودان مرتعا خصبا و مسرحا واسعا للتدخلات و المهددات و الأطماع الخارجية الإقليمية و الدولية بكل أشكالها و أجنداتها السياسية و الإقتصادية و الأمنية و الثقافية و ها هو السودان أمام ناظرينا في أضعف حالاته مهددا في كيانه و وحدته الوطنية ومستدرجا إلى موارد الهلاك و التفكك و ما إنفصال جنوب الوطن إلا فاصلا صغيرا من فواصل كثيرة و كبيرة و مثيرة تحاك و تدبر و تدار في مطابخ التآمر الدولي و الإقليمي و نحن نتصالح مع كل ذلك و لا نبالي و نصفح عنه بل و نستخدمه كسلاح ضد بعضنا البعض و نصفق له و نغط في نوم عميق عن سوءاته و نغض الطرف عن أثاره المدمرة و نلهث جاهدين خلف سراب نعراتنا و ثاراتنا و غبائننا بحثا عن ماء وجهنا المسكوب و لا نُلقـِى مجرد إلتفاتة لحصاد كل ذلك إلا من أجل توسيع دائرة ما بيننا من ملاحقات و فواصل و حواجز من الدم المسفوح و المباح … نواصل..
صحيفة الانتباهة