مقالات متنوعة

عثمان جلال يكتب: الإسلاميون والتحرير الاقتصادي

(1)
تشكل دولة قوامة المجتمع عصب رؤية الحركة الإسلامية السودانية للسياسات السلطانية،وغايتها إنهاء حالة الهيمنة والاحتكار السياسي والاقتصادي والثقافي لدولة ما بعد الاستعمار وإعادة هذه الوظائف يمارسها المجتمع حرا، والغائية من ذلك أن المجتمع الناهض هو الذي يختزل وظائف الحكومة في ما لا سبيل إليه إلا من طريقها ويعمق وظائف المجتمع، وهذا يصب في تحديث الأحزاب بعيدا عن الولاءات العشائرية والطائفية والقبلية وفي تطور منظمات المجتمع ومن ثم ترسيخ البناء الوطني
الديمقراطي المستدام.
(2)
ان احتكار الدولة للوظائف الاقتصادية والسياسية والثقافية سيصنع منها محض دولة ريعية استبدادية، والعلاقات داخل الدولة الريعية أشبه بالولاءات الاقطاعية حيث توفر فيه الطبقة البرجوازية الحاكمة سبل العيش لاتباعها مقابل الوراثة السرمدية في الحكم، فالدولة الريعية معوق استراتيجي للثورة الديمقراطية.
(3)
تحقق قوامة المجتمع في السياسات السلطانية الكلية اصل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الفكرية والثورية وغايتها الاستراتبجية إنهاء دوران احتكار السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية والروحية عند عصبة بني عبد مناف، وبني عبد الدار، وحفز واستنهاض كل طاقات المجتمع القرشي المكي في حركة الدين الجديد، ولذلك كان الجيش الاسلامي من قاعدة المجتمع، وعمليات التجهيز والإعداد اللوجستي للجيش من صلب المجتمع(ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)،(ولا على الذين إذا ما اتوك لتحملهم عليه قلت لا أجد ما احملكم عليه، تولوا واعينهم تفيض من الدمع الا يجدوا ما ينفقون)، وكانت الطليعة القيادية للجيش الاسلامي من المجتمع في تنوعه الجديد بعد تلاشي العلاقات الاقطاعية (زيد ابن الحارث، وأسامة ابن زيد)، وبناة الاقتصاد الحر الجديد من كل شرائح المجتمع، بعد أن كان السوق المكي والمدني حكرا لاقليات ارستقراطية، وكانت قيادة افواج البعثات الدبلوماسية والسفراء المبشرين بالدين الجديد من قاعدة المجتمع الجديد (خاطب ابن أبي بلتعة)، وكذلك كان الأمراء في الأمصار من الطليعة المؤمنة الجديدة، ونهض بالحركة الفكرية والتنويرية والثقافية صفوة من الجيل الثوري الجديد (اباهريرة، وعبد الله ابن مسعود، ومعاذ ابن جبل، حسان ابن ثابت وعبد الله ابن رواحة)
(4)
كان من الطبيعي أن تنتج هذه الثورة المحمدية العميقة جيلا جديدا من القيادات الفذة ارتقوا لأعلى هرم السلطة بفكرهم وسبق مجاهداتهم وبسالتهم ووعيهم السياسي فصعد أبوبكر الصديق، وعمر ابن الخطاب للخلافة وهما في تراتبية اجتماعية ادنى في المجتمع القرشي القديم قبل عثمان ابن عفان وعلي ابن أبي طالب المتحدرين من بيت بني عبد مناف الأكثر عمقا وتجذرا في مكة، هذه الممارسة الثورية والشورية الحرة ادهشت ابن أبي قحافة حتى قال(وهل رضي بني عبد مناف وبني المغيرة؟ ثم استدرك ما علا من وضعوه، وما وضع من رفعوه)، والحكمة الربانية العميقة للتوالي في الخلافة بين الأربعة العظام رضي الله عنهم كما ذكر الأفغاني (ان أقصر الخلفاء الراشدين عمرا تولى الخلافة قبل أطولهما عمرا، والحكمة من ذلك لو تولى علي الخلافة اولا لما ساهم أبوبكر وعمر وعثمان في خدمة الاسلام)
(5).
هذا التوازن في علاقات وظائف الحكم في دولة المدينة خلق دولة قوية ومجتمعا قويا، ولكن عندما آلت الدولة إلى ملكية اموية وعباسية انتكست المعادلة فضعف المجتمع وقويت الدولة، وغدت شوكة في خاصرة المجتمع.
(6)
ان التحرير الاقتصادي هو الكابح من ارتكاس المجتمع في الولاءات الطائفية والعصبية القبلية، والتحرير الاقتصادي يرد دعامات الاقتصاد، وبنية الإنتاج للمجتمع، والتحرير الاقتصادي يفتت الثروة في المجتمع، ويرسخ الثقافة الديمقراطية المستدامة.
(7)
إن ثمرة دولة قوامة المجتمع تجذب الأذكياء والمواهب والانتلجنسيا والمبدعين لمؤسساتها وهم اوتاد صناعة النظام الديمقراطي، والثورة الديمقراطية في أوربا ترسخت قيمها ومأسستها في المجتمع، مع انتهاض فلسفة التحرير الاقتصادي
(8)
في العشرية الأولى لنظام الانقاذ (أعوام الخصب والسعد ) تكللت عمليات التحرير السياسي والاقتصادي والثقافي تحقيقا لدولة قوامة المجتمع لاستنفار وحشد طاقات المجتمع السوداني الذي انتهض وقاد ملاحم الثورة الجهادية، وثورة التعليم العام، والعالي، وثورة الطاقة والنفط، وثورة الاتصالات والمعلومات، وثورة الطرق والكباري والمطارات، ومنظومة الصناعات الدفاعية، والفيدرالية والحكم المحلي، تحققت هذه الإنجازات المدهشة في ظل رؤية واضحة ومتماسكة ووحدة القيادة والقاعدة، وإرادة جماعية صلبة، وكانت الغائية النهائية إعادة هذه الوظائف كليا للمجتمع، ولكن عندما حدث الانحراف الفكري والسياسي، ارتدت سلطة الإنقاذ إلى استبدادية فردية مطلقة.
(9).
ان التحرير الاقتصادي والسياسي ورد هذه الوظائف يمارسها المجتمع السوداني حرا من صميم رؤية الحركة الإسلامية المثالية في الحكم وإدارة الدولة، ولئن تعطل تحقق هذه الرؤية في مرحلة الانتكاسة الفكرية للانقاذ،فقمين بالاسلاميين تأييد هذه السياسات التحريرية لأنها تصب في تعزيز وترسيخ التجربة الوطنية الديمقراطية الناهضة.

صحيفة الانتباهة