مقالات متنوعة

أيوب صديق يكتب: سفور المذيعات لا يصنع صحافة تلفزيونية ناجحة

آ
ارتكبت وزارة الإعلام في عهد وزيرها فيصل محمد صالح ووكيلها الأول رشيد سعيد، أكبر مذبحة في تاريخ الإذاعة والتلفزيون منذ إنشائهما، وذلك بإنهاء خدمات تسعة وسبعين موظفاً دفعة واحدة، ستين من التلفزيون وتسعة عشر من الإذاعة. وعملية إنهاء خدمات العاملين في هذين المرفقين ليست بمستغربة، ولكنها لم تكن بهذا العدد الكبير في مرة واحدة. فالحالة في التلفزيون والإذاعة الآن تشابه حالتهما إبَّان الأيام الأولى لنظام مايو1969، حينما كان يسيطر على إعلامنا آنذاك أئمةُ من يُسيطرون على إعلامنا اليوم. نفس حالات التوتر والتهديد المبطن منه والمعلن للعاملين، ونفس المقاييس التي يُنظر بها إليهم، ويقوَّمون وفقها، ووفقها يكون الاستغناء عن خدمات بعضهم. ولم يكن لعدم الكفاءة دخل في ذلك، حيث كان مقياس الاستغناء عن الخدمة، هو مدى التزام المستَغنى عنهم بدينهم، وإظهار ذلك في سلوكهم. ومن أبرز ذلك السلوك المقيت عند أولئك المسؤولين، المواظبةُ على أداء الصلوات عموماً، وأثناء ساعات العمل بصفة خاصة. وفي المقابل متى كان المرءُ مستهزئاً بالدين معلناً لذلك، كان بمنجاة من إنهاء خدمته بعذر فائض العمالة عند أولئك المسؤولين.
ففي فجر ذلك العهد المايوي، عهد أئمة القائمين على أمر الإعلام اليوم، شُنت حربٌ على مستوى مرافق الدولة، على كل من وجدوا أنه تظهر عليه سيما التدين. فقد بدأت وزارة الداخلية في عهد وزيرها فاروق عثمان حمدنا الله، باعتقال عدد من كبار علماء الدين، منهم الشيخ الجليل القرآني المعروف عوض عمر، أول من قرأ القرآن في الإذاعة السودانية بعد افتتاحها، والشيخ العالم الجليل عبد الله الغبشاوي، وهما يكفيان دليلاً على بغض الدين وأهله عند حكام الأمس، الذين تُتَرسم خطاهم اليوم بكل دقة، في كل منحى من مناحي الخدمة المدنية. وكان من المرافق التي طُبق عليها ذلك المبدأ آنذاك مرفقا الإذاعة والتلفزيون.
وكان لنا في الإذاعة مكان تُقام فيه الصلوات، وكان عبارة عن بروش، تُفرش ويُصلى عليها. وكذلك كان في التلفزيون مصلى مثله. وفي جو الاعتقالات التي كانت تقوم بها وزارة فاروق حمدنا الله، كنا نلاحظ أنه كلما غاب أحد الزملاء عن جماعة المصلين وتكرر غيابه، عرفنا أنه اعتُقل. ولما كان التدين هو أكبر جرم يؤخذ على المرء، كان أوضح برهان على ذلك ما قاله لي رجل أثق في قوله، إنه في تلك الأيام اعتُقل رجل كانت له صلة قديمة بجماعة الإخوان المسلمين، وقد فارق تلك الجماعة منذ أمد بعيد، ولكنه اعتُقل بناءً وجود اسمه ضمن قائمة قديمة بأسمائها في أضابير وزارة الداخلية. فأخبرني محدثي بأنه التقى بفاروق حمدنا الله وسأله عن سبب اعتقال (فلان) فذكر له الوزير أن فلانا هذا عضو في جماعة الإخوان المسلمين واسمه موجود ضمنها، فقال له محدثي إن هذا الرجل قد ترك هذه الجماعة منذ أمد بعيد جداً، وباتت له جماعة أخرى من ندامَى وليالٍ حمر وكأس، فقال له الوزير في دهشة: بالله؟ فإذا به يأمر بإطلاق سراحه فوراً بناءً على براءته من جريمة التقوى.
هكذا كانت المقاييس بالأمس، وهكذا هي اليوم. فإن الدين وما يترتب عليه من مسلك، مجلبة غضب على صاحبه. وإن أنس لا أنس خبراً قرأته قبل أشهر والثورةُ غضٌ إهابُها، عن مسؤول قيل أنه وُجد متلبساً، ليس بكبيرة أداء الصلاة فحسب، بل إنه وُجد وقد أمَّ الناس في صلاة المغرب، وكان ذلك المغربُ آخر صلته بمنصبه، لعدم صلاحيته عند ولاة الأمر، لأنه في نظرهم لا يصلح أن يكون مثالاً يُحتذى، لجيل يُرتجى منه عدمُ معرفة اتجاه القبلة. هذا ولما كان بغضُ أداء الصلاة أكبر متلازمات القوم اعتقاداً ومسلكاً، أذكر أنه في اليوم الأول من انقلاب الثلاثةِ الأيام، بقيادة الرائد هاشم العطا في عام 1971، وكنا نُهيئ لنا مصلىً في ناحية من دار الإذاعة، ليحل محل تلك البروش التي كنا نصلي عليها، في ذلك اليوم والجو في الإذاعة والتلفزيون مكفهرٌ وفي منتهى التوتر، فإذا بأحد زملائنا (الرفاق) يقف أمام مدخل الإذاعة ليقول لنا: (جامعكم البتبنوا فيه ودا باكر حنكسِّرو ليكم على روسيكم). فتكسيرُ الجامع كان أهم شيء بادر إلى ذهن ذلك الرفيق في عهدهم الجديد، الذي لم يستمر فوق ثلاثة أيام، فأتى الله بنيانه من قواعده، فخر عليهم سقفه فانقطع دابر هتافهم (الخرطوم ليست مكة) و (لا اسلام بعد اليوم) وإذا بذلك الرفيق الذي كان يعتزم تكسير ذلك الجامع على رؤوسنا، يُضرب ضرباً كاد يفضي به إلى الموت، لولا تدخل بعض الذين يعرفهم هو جيداً من المصلين لإنقاذه.
والآن وعلى نفس ذلك المبدأ الذي طبق بالأمس في الاستغناء عن خدمة العاملين، جاء إبعاد كثير من أولئك التسعة والسبعين موظفاً من الإذاعة والتلفزيون دفعة واحدة. وأوضح دلالة على ذلك إبعاد المذيعات الخمس المحجبات من التلفزيون، استجابة لرغبة الذين انتقدوا حجابهن، ومنهم كما قيل السيد كمال كرار، باعتبارهن في رأيه من إرث الطيب مصطفى. والطيب مصطفى لم يكن ليبذر بذرة التقوى في نفوس أولئك المذيعات اللاتي استجبن لأمر ربهن. ومما ينفي أن سبب إبعادهن هو فائض العمالة، المجيءُ ببعض المذيعات السافرات للعمل مكانهن.
وإن كان مقياسُ التدين بين النساء التزامهن الزيَ الشرعي، فمقياسه الأبرز بين الرجال هو حرصُهم على أداء الصلاة في أوقاتها كما ذكرتُ آنفاً. ولا يفوتني هنا أن أضرب مثلاً بما خاطبت به الأستاذة سهير عبد الرحيم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، في بابها بهذه الصحيفة الغراء بعنوان (ارحل بس) ضاربة له سبباً بيناً، بما ارتكبته لجنة حكومته لإزالة التمكين في وزارة الخارجية، حيث قالت له نصاً: (هل بلغك يا رجل أن بعض من أزالتهم لجنة التمكين بوزارة الخارجية كفاءات وخبرات وعناصر نادرة في العمل الدبلوماسي، وكانوا خير مُعين للسودانيين في بعض البلدان..؟ هل تعلم أن جريرتهم كانت كثرة التردد على المسجد وأداء الصلاة في أوقاتها؟؟؟!).
صدقت سهير بما صدعت به من قول الحق، في وجه رئيس وزراء حكومة الثورة عبد الله حمدوك، في شأن وزارة الخارجية. ومثل وزارة الخارجية مرافق أخرى في الدولة، دفع كثير من موظفيها ثمن جريرة أداء الصلاة في أوقاتها. فهذه هي هيئة الإذاعة والتلفزيون تَفعل بها لجنة إزالة التمكين كما فعلت بالخارجية وغيرها، فتعصف بتسعة وسبعين إعلامياً حقداً وتشفياً، بتوصية من رئاسة وزارة الإعلام، مضحية بخبرات صحفية وهندسية نادرة لا تتأتى لأصحابها بين يوم وليلة إلا بممارسة العمل ومتداومته سنين عدداً في مختلف الظروف، وقبل ذلك وأثناءه ما تلقوا من تدريب في مجالاتهم. فالخمسُ المذيعاتُ المحجباتُ المدرباتُ، ذواتُ الأقدام الراسخة في ساحة العمل الصحفي التلفزيوني، جيء بأولئك السافرات، ليتدربن أمام الناس، على شاشة، عُرفت بوقار المظهر وسلامة الأداء القائم على حسن اللغة. أقول ذلك وقد أخبرني زميل إذاعي سابق من رعيل هذا التلفزيون المنكوب، بتواضع مستويات هؤلاء المذيعات الحديثات. فالسفور وتسنيم الشعور أو إرسالها على الأكتاف وإظهار النحور وإبراز الصدور مناظرُ قد يجد فيها السيد كمال كرار متعة ناظريه، وكذلك حال من لفوا لفه، إلا أنها أمور لا تصنع بالضرورة صحافة تلفزيونية ناجحة في مهنة بات الاستمرار في مشاهدتها رهن زر (الرموت كنترول) مع توفر البدائل على مستوى العالم العريض.
ثم أيُ تمكين للنظام السابق أزالته لجنة حمدوك في شخصيات محررين يصيغون الأخبار من مصادرها الداخلية من وكالة الانباء الحكومية، أو من تصريحات مسؤولين حكوميين، أو من مصادر خارجية يُختار منها ما يناسب سياسة الاعلام الحكومي ذي الخطوط الحمر العراض؟ وأي تمكين كامن في أشخاص مذيعين يقرأون ما يُكتب لهم، في التزام صارم بالنص الذي أمامهم؟ أو بمقابلات تُجرى مع وزراء وغيرهم من مسؤولين حكوميين يهيمون في وادى الوعود وتحقيق المرتجى بالأماني كرئيسهم، فأي تمكين يمثله هؤلاء؟! وأي تمكين يوجد في مهندس صوت أو عامل جهاز بث يتعامل مع إشارات إلكترونية؟ ثم أي فساد يُزال بإزاحة هؤلاء وقطع أرزاقهم وأرزاق تسع وسبعين أسرة من ورائهم؟! ربما لا يؤمن حمدوك ومسؤولو وزارة إعلامه وأعضاء لجنته لإزالة التمكين وإحلال تمكين آخر محله، بمخوفِ وعيدٍ من رب لا تأخذه سنة ولا نوم، حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين الناس، وهو القائل في محكم تنزيله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ).

صحيفة الانتباهة