أحمد يوسف التاي يكتب: «صعدنة »العاصمة
(1)
أهلي ناس الصعيد كان أحدهم إذا أراد سوق المدينة يضع جلبابه الناصع البياض داخل كيس ويرتدي عراقي ، وما أن تصل «اللواري» أطراف المدينة وهي وسيلة السفر الوحيدة آنذاك، ينزل الركاب وينفضون عن أنفسهم التراب والغبار ويغسلون وجوههم وأيديهم ثم يرتدون الجلابيب داخل الأكياس…مشاهد أعتدنا عليها ونحن في الصغر…. الآن اختفت «اللواري»، وحلّت محلها «البكاسي» و»الهايسات» لكن بقيت الطرقات هي الطرقات بكل سوءاتها حفرٌ كبيرةٌ وخيران مفزعة، وغبار يحجب الرؤيا ويختلط بحبات العرق، ومازال الناس هناك منذ عشرات السنين يحملون «الجلباب» الناصع داخل «الكيس» حتى لا يتسخ ، فالقادم إلى المدينة من مسافة قريبة حتى لو كانت بضع كيلومترات فهو يحتاج إلى (غيارين) ، يحدث ذلك في الصعيد والنجوع البعيدة من وطننا الحبيب ، بينما شوارع الخرطوم في ذلك الوقت تُغسل بـ «الديتول»… مفارقة عجيبة مُش، وأهل الصعيد يغسلهم العرق الممزوج بالغبار من رداءة الطريق؟؟!!..
(2)
لكن وللمفارقات العجيبة ، شوارع الأسفلت في الخرطوم التي كانت تُحيطها عناية «الديتول» تُغسل الآن بالنفايات السائلة التي تسبح فيها الديدان ويتعارك عليها الذباب وتنبعث منها أنتن الروائح في العالم، بينما الحُفر الكبيرة «المردومة» بالتراب الأحمر يشتعل منها الغُبار الذي يحجب الرؤيا تماماً كلما مرّت عليها (دابة) ليغطي أجساد وملابس رُكاب الحافلات والبصات… يعني سكان العاصمة بعد 61 عاماً تساووا تماماً مع ناس الصعيد من حيث الغبار ومشقة السفر والترحال…
(3)
بعد أن أمعنتْ الحكومة في ردم الحفر بالتراب الأحمر واستسهلت الأمر وعجزت عن ترقيع الشوارع بالأسفلت، اقترح على سكان العاصمة القومية أن يستعينوا بتجربة أهلي في الصعيد بأن يحمل كل واحد منهم جلبابه أو قميصه داخل «كيس» (ولا أقول «شنطة» لأن حمل الشنطة بالعاصمة يعرض صاحبه للخطر) وبعد أن يصل إلى حيث يريد، عليه أن يقوم بتغيير ملابس السفر المتسخة..
(4)
هناك أشياء بسيطة لا تحتاج إلى أموال ضخمة ولا سمنارات ولا مؤتمرات ولا منح أو مساعدات خارجية ، فقط تحتاج إلى همة واهتمام ومسؤولية… ترقيع الشوارع بالأسفلت بدلاً عن التراب ليس عملاً صعباً على دولة، وحمل النفايات إلى «المكبات» وتنظيف الشوارع منها ليس عملاً عسيراً على دولة خاصة وأن هناك كميات مهولة من عربات النفايات وهناك شركات نظافة وجيوش جرارة من الموظفين وعمال النظافة… وإصلاح كسور المواسير في الشوارع وداخل الأحياء وبرك المياه الناتجة عنها والتي أصبحت وطناً آمناً للذباب والبعوض والقوارض ليس بالعمل الذي يصعب على دولة، فهو لا يكشف عجز الدولة بقدر ما يفضح المسؤولين الذين وضعتهم الدولة في موضع المسؤولية ويجردهم من ملابس الحياء….اللهم هذا قسمي فيما أملك..
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق انه يراك في كل حين.
صحيفة الانتباهة