رأي ومقالات

عبد القادر محمد أحمد: مسرح اللامعقول

كتب الحاكم العام في السودان السير جون مافي إلى المندوب السامي في القاهرة السير مايلز لامبسون رسالة يقول فيها إنَّه بدخول إيطاليا الحرب قد يتعرض السودان بسبب الوجود الإيطالي في الجبهة الشرقية والبحر الأحمر إلى هجمات من إحدى دول المحور قد يؤدي إلى تعطيل ؛ إنْ لم يكن إيقاف نقل البضائع إلى السودان عبر البحر ، ومضى الحاكم العام البريطاني يقول : ( إنَّ حكومة السودان قد وضعت خطة لتلافي أي نقص في المواد الغذايية من الإنتاج المحلي مثل الذرة والسمسم والزيوت والتمور ، في فترة الحرب، ولكنها في حاجة إلى سلعة أخرى لا تتوفر في السودان هي السكر) محدداً الكميات المطلوبة منه للسنوات الخمس القادمة، وختم الحاكم العام رسالته إلى المندوب السامي بالقول : (توفير الغذاء هو الواجب الأول لأي حكومة نحو الشعب الذي تحكمه ، لهذا لا مهرب لنا من القيام بهذا الواجب، كما من المستحيل أنْ يصدق أهل السودان أنَّ بريطانيا العظمى عاجزة عن تحقيق هذا المطلب الحيوي لهم .

تخيلوا أنَّ هذا هو موقف المستعمر غريب الديار والدين واللسان تجاه الشعب الذي يستعمره، ثم قارنوا ذلك بحكامنا الذين هم من جنسنا ودمنا وديننا كيف تركونا حتي وصلنا مرحلة من الجوع والمسغبة حتي شاهدنا أطفالنا يسرقون الزيت والسكر جهاراً نهاراً تتناقل صورهم أجهزة الإعلام الإقليمية والعالمية، أي خزي و أي عار هذا ؟ فيا حسرتنا علي ما فرطنا في شعبنا فقد استبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير فأذاقنا الله لباس الجوع والخوف .

ذكرني مايجري في السودان بمسرح اللامعقول، فكما أفرزت مرحلة ما بين الحربين الأولى والثانية وما بعدها ظروفا و أزماتٍ إجتماعية و إقتصادية ونفسية، فكان ظهور مسرح اللامعقول أو مسرح العبث ، فقد أفرزت مرحلة ما بعد ثورة ديسمبر أيضاً ظروفاً و أزماتٍ إجتماعيةٍ و إقتصادية و أمنية ونفسية أدَّت إلى ظهور مسرح اللامعقول الذي يعرض يومياً بواسطة حكومة القحاتة بقيادة د حمدوك كبيرهم الذي علمهم السحر .

اللامعقول هو أنْ يعلن الدكتور حمدوك أنَّ ٨٢٪ من الإقتصاد لدى القوات المسلحة، ثم يأتي الرد مباشرة من وزيرة المالية المكلفة مكذبة ما قال به رئيسها على الملأ .

أيضاً اللامعقول في ذات الموضوع أنْ يُطالب الدكتور حمدوك بأيلولة شركات القوات المسلحة لوزارة المالية صاحبة الولاية على المال العام ثم يقوم هو نفسه بتكوين شركة قابضة لإدارة الأموال المزعومة من تفكيك التمكين تحت إدارته المباشرة و لا أدري لماذا يحل لنفسه ما حرم لغيره ؟ ولكنه مسرح اللامعقول أو مسرح العبث .

واللامعقول أنْ يبرر د حمدوك زيادة أسعار البنزين حتي لا يهاجر أحد من الصحافة إلى الثورة ليتناول مع صاحبه الشاي و بعضنا يذهب بذات البنزين الغالي إلى المزرعة (لشرب الشاي) ولكنه لا يدفع الثمن .

اللامعقول أيُّها السادة أنْ يصدر د حمدوك قراراً بتجميد المناهج الجديدة ثم نفاجأ بأنَّ المناهج قد طبعت ووزعت على الولايات، وهكذا يستمر عرض مسرح اللامعقول .

اللامعقول هو أنْ يعلن الحزب الشيوعي الحرب على الحكومة وينادي بإسقاطها ويعلن المؤتمر الوطني المعارضة المساندة ثم يتم إعتقال قادة المؤتمر الوطني ؟ بالرغم من أنني لا أرى أي علاقة لهذه الإعتقالات بالأحداث الأخيرة بل هي تمهيد لحدث قادم .
اللا معقول هو أنْ ترفع الحكومة المرتبات للعاملين ثم ترفع الدعم عن كل شيء لتأخذ بالشمال ما أعطته باليمين والأمثلة لا تحصى ولا تعد . ولا زال العرض مستمراً .

دعنا نترك المسرح ونذهب لنرى المحاولات المستحيلة للعبور، وحقيقة تستفزني جداً كلمة ( سنعبر)، لذلك بحثت عنها وعن مصدرها في كل مكان، و أخيراً و بالصدفة توصلت إلى أصلها وفصلها ، فقد قرأت فيما قرأت أنَّ هنالك نهر صغير كان يفصل بين روما و الولايات التي تحيط بها ، اسمه rubicon الروبكون اقتحمه يوليوس قيصر عام ٤٩ قبل الميلاد، وبعبوره سادت روما كل تلك الولايات، ولهذا صار عبور الروبيكون (crossing the robicon) كناية عن تجاوز أكبر حاجز يحول دون الوصول إلى غاية مرجوة، ولا أدري أي نهر هو الذي سيعبره حمدوك ليصل إلى غايته المرجوة إنْ كانت له غاية أصلاً .

من العوامل التي تقف أمام العبور هو أنَّ النشطاء أثناء الثورة استعملوا لغة شعبوية ( لا تنشد إلا تضليل الشعوب و إغوائها بخطاب سياسي يعمد فيه المتحدث إلى دغدغة عواطف الشعوب وخاصة الشباب حتي يسيطروا علي إرادتها) وقد نجحوا في ذلك، وبالرغم من أنًّ دغدغة العواطف هي أداة من الأدوات الناجحة في كسب قلوب الجماهير و إثارتها فإنَّ تلك الإثارة بدون هدف مرغوب وخارطة طريق للوصول إلى ذلك الهدف تصبح غوغائية ومدمرة وهذا ما حدث ! أضف إلى ذلك أنَّ هؤلاء النشطاء قد كذبوا على شعبهم عندما أعلنوا أنهم لا نية لهم ولا رغبة في سلطة وقد شهدت عليهم ألسنتهم وفيديوهاتهم أنهم كذبوا علينا وتسلقوا للسلطة علي ظهور شبابنا ودمائهم الطاهرة، هؤلاء كانوا يهتفون أمام الشباب أنَّ الحصة وطن، وفي هذا تذكرت قول الشاعر العراقي معروف الرصافي ( لا يخدعنَّك خطاب القوم بالوطن، فالقوم في السر غير القوم في العلن)

على كلٍ إذا أردتم أنْ تعبروا فعليكم :
أولاً إدراك أنَّ ( السياسة ليست فهلوة .
وثانياً إختيار الشخص المناسب للموقع المناسب .
وثالثاً الوعي بطبيعة الواجبات الملقاة على عاتق السياسي الحاكم أو المتطلع للحكم و لا سيما إنَّ الذي يترجاه الناس من السياسي أمر بسيط لا يتجاوز ما ينفعهم في الأرض أي أمنهم وقوتهم وصحتهم وتعليمهم وكل ذلك مفقود الآن .
و إنْ فشلتم في ذلك وقد فشلتم فعليكم الرحيل والعودة من حيث أتيتم ، ولا تنسوا أنَّه عندما تختفي محاسن النظام الديمقراطي ولا تظهر سوى معايبه كما هو حادث الأن ، فسيندفع المحكومون في كل طريق بحثا عن نظام آخر ولنا في تاريخنا عبرة وعبرة . !

الخبير الإقتصادي
و الأمين العام لديوان الضرائب الأسبق
الدكتور
عبد القادر محمد أحمد

تعليق واحد

  1. اخي… سلام،،

    امثال الدكتور عبد القادر تدخرهم اوطانهم باعتبارهم ثروة قومية وتوكل لهم مهام الابحاث والتخطيط والقيادة الهادية الى سبل الصلاح والفلاح والنهوض. لكن عندما يضطر العلماء للكتابة عن الزيت والسكر فعلى الامة السلام وعلى الشعب اقامة سرادق العزاء.. (دا إذا لقوا العيش لإطعام المعزين، والا فالترابة كالت خشمهم…!!!).

    قبل فترة ارسل لي احد الزملاء يسالني عن حالي وكيف وجدت البلد?!!! في الحقيقة ذهلت وارتبكت وحكيت راسي وتلمست صفحاتي بيدي لأتأكد من اني “دا أنا” وبعدها بسملت وحوقلت وشلت نفسي وختيتو ثم جغمت لي كباية موية، ورديت ليهو قائلا:
    الحمد لله على اختياره وأقداره ومشيئته. ما زلت ابحث عن البلد، فلا الانسان ولا العمران كما اعرفه، والشيطان اصبح من العقلاء والناس يسيًرهم السفهاء والجهلاء والنشطاء والحمقى “فلا كريم يُرتجى منه النوالُ، ولا جميلٌ يُعشق…!!!”
    شظف العيش ترف يُرتجى، فالعيش اصبح شطط وشبك واشتباك وعراك، والوقت موزع بين الصفوف ومهدر في الازقة لحفظ الدور ونثر الكرامة!!
    ما كنت احسب اني اعيش لارى الفضيلة تُذبح والاخلاق تُطارد والقيم يُزدرى بها “فتصبح الرذائل فضائل، والفضائل رذائل” كما ذكر ابن خلدون في مقدمته…
    ما زلت اعيش الدهشة، ولا اصدق ما ارى، واخاف الخروج من المنزل، وينتابني احساس اني قد اخطأت النزول بأرض مدين واني بين قوم سيدنا شعيب الذين ينقصون المكيال والميزان ولا يعطون الناس حقهم ويعتبرون بخس الناس اشياءهم نوعا من المهارة في البيع والشراء فحذرهم الله “ولا تنقصوا المكيال والميزان اني اراكم بخير واني اخاف عليكم عذاب يوم محيط” فنقص المكيال والميزان مذموم في كل شئون الحياة حتى في الاخلاق والقيم، والوعد من الله بالعذاب المحيط قائم وقادم ومعاش في الضنك والضيق وسوء الحال، والايام حبلى في شهرها الاخير، والناس كالنعاج ينتظرون قدرهم وهم في غفلة وفي جدال ولا احد يلتفت لمقالة ووعظ شعيب ولسنن الله الماضية…!!!
    ما ذكرته يمثل الحال مع اقصى درجات التفاؤل، علما بأن شجر زرقاء اليمامة قد وصل الساحات والباحات والميادين والدكاكين..!!
    اصدر الكاتب المصري خالد محمد خالد في الستينيات كتابا اسماه “هذا… أو الطوفان” ونستأذنه في استلاف العنوان مع اضافة حرف واحد لكلمة “أو” هو حرف اللام لتصبح “أول”…
    والسلام…….!!!!!
    عبدالمنعم محمد علي