لغات السودانيين المحلية قاومت الهجرات والحروب وتخشى الاندثار
يناضل باحثون في السودان ومتطوعون من المجتمعات المحلية لمنع اندثار أكثر من 70 لغة محلية منتشرة في جميع أنحاء البلاد بعد أن انقرضت لغات من البرتي والميما في بلد يعاني من شكاوى التهميش. وتوجد في السودان أكثر من 400 قبيلة مختلفة وثقافات متنوعة تتفرع منها أكثر من 500 لهجة محلية، وهو ما يكشف تحديات مهمة من أجل إدارة التنوع والاستفادة منه.
وبحسب باحثين تحدثوا للجزيرة نت، فإن خطورة موت هذه اللغات -التي ظلت تقاوم الهجرات والحروب- تعني بالضرورة انقراض كم هائل من التراث والسرديات والأسرار الخاصة بلغات المجتمعات الأكثر عرضة للاندثار. ورغم أن الاحتفال باليوم العالمي للغات الأم الذي شهدته إحدى قاعات وزارة الثقافة والإعلام أمس الثلاثاء غلب عليه السمت الأكاديمي والثقافي فإن الشعور بالغبن والتهميش كان حاضرا بوضوح في النقاشات.
وتتحدث أغلب شعوب السودان -عدا الأواسط- لغات محلية مثل النوبية في شمال السودان، ولغتي تيما وتقوي في جنوب كردفان، ولغات الفور والمساليت والزغاوة في دارفور، واللغة البجاوية في شرق السودان. موت لغة ويقول مدير معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم البروفيسور محمد الأمين أبو منقة للجزيرة نت إن عدد اللغات المحلية في السودان بعد انفصال جنوب السودان يصل إلى أكثر من 70 لغة.
ويوضح أبو منقة أن عدد اللغات المحلية يعتمد على إحصاء في العام 1956 أشار إلى وجود نحو 113 لغة أم في السودان قبل استقلال جنوب السودان في يوليو 2011. ويؤكد أن 90% من هذه اللغات معرضة للانقراض والموت كما اندثرت بالفعل لغة البرتي في دارفور، حيث لا يوجد أحد يتحدث هذه اللغة حاليا على الإطلاق. ويشير أبو منقة إلى أن ثمة لغات غير معرضة للاندثار في الوقت الراهن كاللغة البجاوية في الشرق، والفوراوية في دارفور، والنوبية في شمال السودان.
ويصادف 21 فبراير من كل عام احتفال اليونسكو باليوم العالمي للغات الأم، والذي يأتي هذا العام تحت شعار “تعزيز التعدد اللغوي من أجل التعليم الشامل والاندماج في المجتمع”. وبحسب اليونسكو، فإن التنوع اللغوي يتعرض بشكل متزايد للتهديد مع ازدياد اندثار اللغات، كما أن 40% من سكان العالم لا يحصلون على التعليم بلغة يتحدثونها أو يفهموها.
محاولة إنقاذ وباستماتة يحاول قسم اللغويات في كلية الآداب جامعة الخرطوم إنقاذ اللغات الأكثر عرضة للاندثار، مثل لغتي تيما وتقوي بجبال النوبة. بدورها، تقول الأستاذة المشاركة في كلية الآداب بجامعة الخرطوم-قسم اللغويات البروفيسورة عبير محمد علي إن هاتين اللغتين هما الأكثر عرضة حاليا للانقراض، وبمبادرة من المجتمعات المحلية ومساعدة جهات مانحة تم توصيف وتوثيق اللغتين.
وتقول عبير للجزيرة نت إنها وبصحبة فريق من الباحثين والمبحوثين جمعوا المعلومات اللازمة للغة تيما خلال الفترة من 2007 وحتى 2012 عن طريق توصيف الأصوات والنحو وتصريف الأسماء والأفعال.
وبعد التوثيق تم جمع مواد مسجلة ومصورة لحوارات وأغان وأحاج للغتي تيما وتقوي، وتم إيداعها في أرشيف اللغات المهددة بالانقراض في معهد ماكس بلانك في ألمانيا.
وتشير إلى أنه بعد دراسة لغة تيما بدا المتحدثون بهذه اللغة -خاصة في العاصمة الخرطوم- أكثر احتفاء بلغتهم الأم، لدرجة غناء فرقهم الشعبية باللغة الأم بعد أن ترجموا هذه الأغنيات في وقت سابق. اللغات والتعليم ويبدو أن تحديا كبيرا يواجه السلطات الحكومية فضلا عن المجتمعات المحلية في الحفاظ على اللغات الأم وكتابتها وإدخالها في التعليم.
ويؤكد وكيل أول وزارة الثقافة والإعلام الرشيد سعيد يعقوب أنه لا بد من دعم فني ومالي للحفاظ على اللغات الأم وكتابتها حتى لا تنقرض، موضحا أن العدالة والحرية من شعارات الثورة، لذا يجب أن يتحدث الجميع باللغة التي يريدها.
لكن محمد الأمين أبو منقة لا يرى ذلك سهلا على الأقل الآن، ففي مدينة مثل نيالا بجنوب دارفور يبدو ذلك صعبا، فالفصل الدراسي الواحد يمكن أن يضم تلاميذ يتحدثون بـ5 لغات محلية. ويعتبر أصحاب اللغات المحلية أنفسهم مقاتلين في سبيل الحفاظ على لغاتهم المعرضة للانقراض، ويقول توفيق خميس -وهو من المدافعين على لغة الكواليب- إنه لا بد من إلغاء شرط النجاح في اللغة العربية في الشهادة الثانوية.
ويروي جماع كوكو -وهو من مناصري لغة كمدا بجبال النوبة- ذكرياته عندما كان في مدرسة القرية، وكيف أنه كان يتعرض للعقاب لمجرد ذكره كلمة بلغته المحلية. تحدي الكتابة ويتعامل أصحاب اللغات الأم بحساسية مفرطة مع مصطلح “الرطانة”، وهي كلمة في العامية السودانية لوصف أي لغة غير العربية، وهو ما دعا المناصرين للغات المحلية للاعتراض على مقدمي إحدى الأوراق عندما وصف اللغات بـ”الرطانة”.
وتطال هذه الحساسية مجهودات كتابة اللغات الأم، فثمة اقتراحات تتراوح ما بين اعتماد حرف “آفار” وهو ما يسميه الباحثون الحرف الأفريقي العربي، والحرف النوبي والحرف اللاتيني. من جهتها، تقول عبير محمد علي إنه يمكن الاتفاق على الحرف الأفريقي العربي “آفار” لأنه عملي ويناسب السودان عن طريق اختيار 15 لغة من مجموعات لغوية مختلفة بتوزيع جغرافي لكتابتها وحوسبتها. بيد أن الباحث في اللغة النوبية عبد العال همت يرى أن الكتابة بحرف “آفار” ستنسف جهد امتد 40 سنة لكتابة اللغة النوبية بالحرف النوبي. كما يرفض توفيق خميس الباحث في لغة الكواليب حرف “آفار”، ويشير إلى أنهم قطعوا أشواطا مقدرة في كتابة لغتهم بالحرف اللاتيني.
وهو ما اضطر عبير محمد علي والأمين أبو منقة للتوضيح بأن حرف “آفار” ليس إلزاميا، ولكل أصحاب لغة اختيار الحرف الذي يناسبهم لكتابه لغتهم. ويبدو أن الأغاني الشعبية تمثل حائط الصد الأخير لحفظ اللغات الأم في السودان من الموت، إذ إن فرق القبائل ما زالت تردد أهازيجها بلغاتها الأم، وهو ما يمكن تلمسه في البيوت والشارع في ظل تسيد اللغة العربية، حسب أبو منقة.
وتشير معطيات الأمم المتحدة إلى أن التحركات الرامية لتعزيز نشر الألسن الأم لن تساعد على تشجيع التعدد اللغوي فحسب، بل ستشجع على تطوير وعي أكمل للتقاليد اللغوية والثقافية في كافة أنحاء العالم، كما ستلهم على تحقيق التضامن المبني على التفاهم والتسامح والحوار. وتتعرض اللغات إلى تهديد متزايد أو للاندثار كليا جراء العولمة، إذ إن ما لا يقل عن 43% من اللغات المحكية حاليا في العالم والبالغ عددها 7 آلاف لغة معرضة للاندثار. كما أن اللغات التي تعطى لها أهمية فعلية في نظام التعليم والمجال العام لا يزيد عددها على بضع مئات، ويقل المستخدم منها في العالم الرقمي عن 100 لغة. الخرطوم: أجمد فضل
الجزيرة نت