محمد جميل أحمد يكتب شرق السودان… التحدي القائم!
الإقليم هو الأكثر تأثراً بقرارات تسييس نظام الإدارة الأهلية التي اتخذها نظام البشير قبل 30 عاماً
في حين يظل شرق السودان، نتيجة مسار معقد من الإهمال، الإقليم الأكثر ترشيحاً للاحتقان، لجملة من الأسباب المعقدة، تبدو مؤشرات ذلك الاحتقان باديةً للعيان بما يجعلنا نؤكد أن الاستجابة لتحديات مشاكله هي تحديات في صميمها تتصل بأدوار دستورية وحلول علاجية حاسمة تضطلع بها الدولة تحديداً عبر جملة من الإجراءات القانونية الصارمة، التي تساعد في تسكين تناقضات ذلك الإقليم المرشحة للانفجار في أي وقت.
فشرق السودان هو أكثر الأقاليم تأثراً بقرارات تسييس نظام الإدارة الأهلية التي اتخذها نظام عمر البشير قبل 30 عاماً، ولأنه الإقليم الأكثر التصاقاً بمنظومات التقليد القبلي في أوساط سكانه المحليين دون أقاليم السودان الأخرى، فقد بدا ذلك التسييس اليوم هو الآفة التي تنخر في المجال السياسي بالمنظور القبائلي الذي متى ما تم اعتباره منظوراً للعمل السياسي (كما يحدث اليوم في الشرق)، فإن مفاعليه الكارثية ستكون باديةً للعيان.
اليوم، الجميع في شرق السودان لم يغادر قواعد الملعب السياسوي الذي صممه نظام البشير للقبائل، بعد أن دمر ذلك النظام المشؤوم البنى السياسية لعمل الأحزاب في الفضاء العام، بصورة نسي معها جيل اليوم من عامة الناس في شرق السودان، خصوصاً أبناء قبائل البجا، أي مفهوم للممارسات السياسية خارج إطار نشاط القبيلة. وهذا يعني في تقديرنا، أن ما نراه اليوم من أفعال وآراء إقصائية وانعزالية يظن أصحابها (سواءً أكان ذلك بوعي منهم أم في لا وعيهم)، أنها ممارسات سياسية، إنما هي للأسف ممارسات قبائلية خطيرة يتم النظر إليها كرؤى سياسية.
وكما ذكرنا، فإن 30 عاماً كانت كافيةً لقيام جيل بكامله على وعي السياسة بمنظور القبيلة، ما دام الفضاء العام للسياسة بشرق السودان – وبقية السودان كذلك – أصبح مغلقاً أمام الأحزاب ومفتوحاً للقبائل!
هكذا، سنجد اليوم بعض الكيانات التي تدعي ممارسة السياسة في شرق السودان (على الرغم من اسمها ومسماها القبائلي) إنما هي تمارس الإقصاء وفق منظورها القبلي الذي تظنه منظوراً سياسياً!
والذين يروجون ليل نهار من قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا، خلال لقاءاتهم بالقادة السياسيين من مختلف القوى السياسية والمسؤولين الحكوميين في الخرطوم، من أن بعض قادة مسار شرق السودان إما غير سودانيين، وإما غير بجاويين (لاعتقادهم أن ذلك ينبغي أن يكون سبباً حصرياً لحرمانهم من حقهم الدستوري) إنما يمارسون تمييزاً عنصرياً لا يقبله الدستور ولا قيم المواطنة ولا العيش المشترك ولا فكرة الوطن، ولكن واقع الحال هذا هو وعيهم لمنظور السياسة عبر القبيلة، بعد تكريس ذلك في نظام تسييس الإدارة الأهلية لـ30 سنة!
غني عن القول، أن كاتب هذه السطور ليس من مؤيدي المسار، ولكنه كمراقب يدرك خطورة تسييس نظام القبائل وممارساته العوجاء للسياسة وما تنطوي على تلك الممارسات من قابلية لتدمير حقيقي للأمن والتعايش والسلم الأهلي بشرق السودان؛ ما يفرض عليه تنبيه صانع القرار السياسي في المركز إلى خطورة تلك الممارسات القبائلية المميتة للسياسة (التي هي امتداد لطرق إدارة نظام البشير البائد للواقع السياسي في شرق السودان)، ما يحتم على صانعي القرار وقادة قوى الحرية والتغيير وحركات اتفاق جوبا مزيداً من الانتباه إلى أن ذلك الذي يحدث من قبل المجلس الأعلى لنظارات البجا من إقصاء وتمييز وجهر بنفي المواطنة عن سياسيين سودانيين، هو جزء لا يتجزأ من أفعال النظام القديم في طرق الإقصاء والتمييز. كما سيكون جزءاً من أسباب أي حرب محتملة في شرق السودان، لا سمح الله، ولهذا فإن التساهل مع تلك النزعات القبائلية المسيسة والمدمرة للسياسة، لا ينبغي النظر إليها كوجهات نظر سياسية أو آراء عامة، وإنما هي سياق تخريبي للسياسة.
وعلى الرغم من أن هناك إدراكاً واضحاً (تبلور عبر اجتماعات كثيرة وغير مفيدة) لصانعي القرار بعدم جدوى الحوار السياسي مع من ينظرون لجزء من البلاد (شرق السودان) كحيازة قبلية، فإن مأزق السياسة في الإقليم يحتاج إلى مفوضية خاصة بالشرق في نظرنا (ولقد دعونا إلى ذلك أكثر من مرة في مقالات سابقة). ففي وجه، من يريدون أن يحرقوا شرق السودان بأفكارهم العنصرية التي يظنونها ممارسات للسياسة أو يهددون بفصله (وهم أكثر من يعلمون استحالة ذلك) إنما هم في تقديرنا خطر على صيغة الوطن والمواطنة، بل هم كذلك جزء من النظام القديم والثورة المضادة.
والأخطر من ذلك، أن دعاة انفصال شرق السودان وهم يعلمون طبيعة التداخل الذي فيه من كافة مكونات البلاد، إنما يفتحون طريقاً ملكياً للفتنة والخراب الذي سيجعل الإقليم عرضةً للأطماع الإقليمية والأجندات الخارجية. فإذا كان في حكم المؤكد أن شرق السودان والبجا في الشرق هم من أكثر القوميات السودانية تأخراً في خدمات التنمية والتعليم، فإن هذا يعني بطريقة واضحة لا لبس فيها أن أي دعوة عدمية إلى انفصال شرق السودان هي بالضرورة الوجه الآخر لتدميره، إذ كيف يمكن لقومية لم تأخذ حظها الوافي من استحقاقات التنمية والتعليم أن تكون قادرة على تحميل أعباء الانفصال؟ هنا سنجد أن فزاعة الانفصال في الشرق هي في الحقيقة ورقة تهديد لفصيل سياسوي معين، لا يعرف استحقاقات العمل السياسي الحقيقي ولا أدواته وتحدياته، ومع ذلك يضع سقف الانفصال ثمناً لإقصائه من أي تشكيل سياسي لهياكل السلطة بعد التغيير الكبير الذي حدث في السودان منذ أبريل (نيسان) 2019. وفي حين يعرف الجميع في دوائر وأروقة السلطة السياسية في الخرطوم أن السبب الذي تم بموجبه إقصاء قادة ذلك الفصيل (المجلس الأعلى لنظارات البجا) هو فقط لأنهم كانوا جزءاً من النظام القديم، فإنهم (وبحجة أنهم أصحاب الأرض الأصليين) يرون في ذلك الإقصاء حرماناً لكل أهل الشرق، ويهددون بتفجير السلم الأهلي وبشعار فصل شرق السودان. ولأن قادة ذلك الفصيل لا يملكون إدراكاً واعياً لقيم المواطنة والوطن والدستور لأنهم يمارسون إقصاء الآخرين بناءً على تصنيفات ومعايير لا علاقة لها لا بقيم المواطنة ولا بقيم الدستور ولا العيش المشترك، فأتباع المجلس الأعلى لنظارات البجا لا يفصلون فصلاً موضوعياً واعياً بين عدم قبول قادتهم في أي منصب سياسي بعد التغيير الجديد (لأنهم كانوا جزءاً من النظام القديم) وبين أن يكون نفس القادة أنفسهم منتمين لإثنيتهم؛ فانتماء قادتهم لإثنيتهم، في نظرهم، كافٍ بحد ذاته لأن يعفيهم من مسؤولية أي انتماء حتى ولو كان انتماءً للنظام البائد!
هذه هي حقيقة الأوضاع التي يمر بها المشهد السياسوي في شرق السودان، على وقع تحركات ذلك الفصيل السياسوي الذي يدعي تمثيل كافة البجا وأهل الشرق، بينما هو في الحقيقة يمثل جزءاً بسيطاً في مواقفه السياسوية هذه. وكان واضحاً أن تعويم هذا الفصيل وفتح الأبواب له في أروقة السلطة السياسية في الخرطوم إنما يعكس تواطؤاً لأشخاص في المكون العسكري!
كما أن مسار شرق السودان في اتفاقية جوبا يعكس هو الآخر بعض الإشكالات التي تتصل بشخصية قيادية في أحد مكوني حزبي الشرق اللذين وقعا على المسار من حيث إنها كانت جزءاً من النظام القديم؛ الأمر الذي سيعني، بصورة من الصور، أن هناك إشكالاً حقيقياً سينشأ من وجود شخصيات لها علاقة بنظام البشير في المستويات المختلفة للسلطة التنفيذية بعد تغيير النظام القديم. ونعتقد أن هذه الإشكالية تتطلب اتساقاً ومعالجة لها في داخل الفصيل: الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة.
كذلك من المهم، في ظل قرب الإجراء الحكومي بتغيير الولاة، أن يكون ولاة ولايات شرق السودان الثلاثة من خارج المكونات البجاوية، على أن يكون الولاة الجدد أكثر تشبعاً بروح مبادئ التغيير الجديد والنزاهة الأخلاقية والوطنية وقوة الشخصية التي تجعلهم أكثر تأهيلاً وحنكة في تدابير وإجراءات حسم تحديات استتباب الأمن وقطع الطريق على دواعي الفتنة في شرق السودان للعبور بالمرحلة الانتقالية إلى نهايات سلمية ومستقرة.
صحيفة السوداني