مقالات متنوعة

زين العابدين صالح عبد الرحمن يكتب: غياب الكارزمات و تعميق أزمات السودان


كأنت الأجيال الجديدة تعتقد أن الأحزاب بناءات مغلقة، و الهرم القيادي مكفول لناس بعينهم، تصعدهم رافعات القبيلة و العشيرة و الأسرة ذات القدسية و التجمعات الأيديولوجية، و لا يخلو مقعد قمة الهرم إلا بسبب الوفاة، و حتى كبر السن و عجز أداء المهام لا تقيل الشخص مادام النفس باقي. هذه القناعات تسيطر علي أغلبية عقليات الأجيال الجديدة، و تمنع الاغلبية من الإنتماء السياسي المنظم في الأحزاب، الأمر الذي يؤثر سلبا علي الحركة السياسية لأنها لا تجدد ذاتها، و في نفس الوقت تمنع من نمو تيارات الفكر الحديث داخل التنظيم، باعتبار أن تلاقح الأفكار و حوارها هو الذي يزيد انتشار الوعي عند العضوية الحزبية و الجماهير، و عزوف الأجيال من الإنتماء، أدي لتقليل فرص بروز رأي آخر داخل المؤسسة، الأمر الذي أدي إلي أن يصبح الحزب السياسي له مفكرا واحدا، و حتى المبادرات السياسية و الثقافية مكفولة للكارزمة، مما أدي إلي تجميد الناشط العقلي، و زادت أعداد المتسلقين و الانتهازيين و الوصولين و كل الذين وقعوا في مستنقع الأمراض الاجتماعية، هؤلاء لا يملكون غير اتسع الحلاقيم من أجل الهتاف، و التسبيح بأسم الشيخ و السيد و القائد، و ليس لهم أحلام سوى أن يكون لهم نصيب في فتافت الموائد، و الولاء للزعيم و القائد و الشيخ و الرئيس، لأنه هو الذي يضمن لهم التعيين في الوظائف القيادية و يقدم لهم التسهيلات المالية.
بعد ثورة ديسمبر التي قادها الشباب، كان الأمل معقودا أن يحدث الشباب خضة قوية داخل البناءات السياسية و الثقافية في المجتمع، يؤدي إلي تغيير كل الإرث الثقافي الذي خلفته الكارزمات، و يصبح هناك أعدادا من المفكرين و آهل الرآي داخل الأحزاب، و تقدم مبادرات متعددة من هؤلاء الشباب للخروج من شرنقات الآزمات. و بالفعل استطاع الشباب من داخل ساحة الاعتصام أن يقدموا مبادرات تمثلت في العديد من ضروب الإبداع، لكنها كانت عصية على الاستقطاب لكي تخدم تيارا فكريا واحدا، أو تنحاز لحزب دون الآخرين، الأمر الذي أدى إلي قتل هذه المبادرات في مهدها، أن فض ساحة الاعتصام هي فكرة سياسية قبل أن تكون عملية وجريمة نكراء لحملة السلاح، ليس حملة السلاح وحدهم الذين فضوا الساحة بل شاركت فيها كل العقليات التي لا تؤمن بعملية التحول الديمقراطي من كل التيارات السياسية، هي عملية جاءت فكرتها للتشرزم الذي اتخلق داخل المكون المدني، و أيضا نتيجة للبعض الذين يريدون أن يحاربوا الكل حتى طواحين الهواء، مما أدى إلي مات الحلم في مهده.
و أيضا حكمة الله؛ أن تغيب كل الكارزمات السياسية التي كانت تقدم المبادرات و و الأفكار عن الساحة السياسية، رحل زعيم الحزب الشيوعي محمد إبراهيم نقد ثم الدكتور الترابي ثم الامام الصادق المهدي، و الميرغني اقعده كبر السن و أصبح ” Out of order” و هؤلاء كانوا هم صناع المحفل السياسي في البلاد. و قبل الانفصال رحل الدكتور جون قرنق لكي يبين الله لنا أن شعارات الحرية و الديمقراطية و أنتصار لقوى التهميش التي كانت تحملها الحركة الشعبية هي مجرد شعارات ليس لها طريقا للتطبيق علي الأرض، لآن القيادات التي تحملها تنظر لرغباتها الشخصية أكثر من نظرتها لإصلاح داخل المجتمع و النهوض بالوطن، لذلك أكد سلفا كير في بداية حكمه أن هناك أربعة مليار دولار لا يعرف أين هي، و هنا يؤكد أولوية هذه النخبة التي كانت تقود مسيرة التغيير. و القوى الأخرى التي غاب عنها الكارزمة لم تستطيع أن تفتح الباب لقيادات جديدة أكثر حكمة و تأهيلا و ثقافة و إيمان بعملية التحول الديمقراطي، بل جاءت بقيادات كان أدائها داخل التنظيم أداء تنفيذيا، هؤلاء لا يستطيعون أن يقدموا مبادرات، و لا يستطيعون علي اعمال الفكر. لأنهم لم يكونوا من زمرة الذين يشتغلون بالفكر، أن الذي استوطن عقله علي الهتاف لن يستطيع ممارسة شيء غير الهتاف، الأغلبية من القيادات التي وصلت القمة كان عملها لا يخرج من هذه الدائرة، فكان الفشل هو سيد الموقف. و بالتالي لا تستطيع قيادات القوى السياسية أن تقدم تصورات للخروج من هذه الأزمات للأسباب الأتية:-
1 – كانت الأحزاب تركن نفسها إلي أعمال الكارزمة و دورها في تقديم المبادرات و المقترحات، و حتى كسر الجمود في العلائق السياسية بين الأحزاب بعضها البعض، لأنها وحدها كانت تمارس الفعل السياسي المبادر، دلالة على ذلك بعد انفصال الجنوب لم يتردد الترابي أن يدخل في تجمع إجماع القوى الذي يضم الحزب الشيوعي و البعثيين و غيرهم، بهدف الضغط علي النظام، و عقلانية نقد لم يرفض قبول المؤتمر الشعبي لأنه كان شاعرا لابد من اتساع دائرة المعارضة و الضغط علي النظام. و أيضا عندما تعالت الأصوات ضد المجلس العسكري لم يتردد الامام أن يقول يجب اعتبار العسكر جزء من صناع الثورة حتى تتستطيع أن تنجز مهام الفترة الانتقالية. أي هي مساومة سياسية و يجب علي مجموعاتها التناغم، الأمر الذي يؤكد إيجابية الكارزمة، رغم سلبيتها في تقليص دور المؤسسية في الحزب.
2 – بعد الثورة نرى الحزب الشيوعي و الأحزاب الصغير الريديكالية الآخرى، اعتقدت أنها تسيطر علي الشارع سيطرة كاملة، و بالتالي يجب عليها أن تستفيد من الفترة الانتقالية فائدة كبيرة، للتخلص من آهل الولاء و استبدالهم بولاء جديد يدير الدولة، لذلك اقترحوا أن تكون الفترة الانتقالية أربعة سنوات، بدلا من مقترح المجلس العسكري سنتين، و رغم أن هؤلاء يعلمون أن المؤتمر الوطني الحاكم لا يضم كل الإسلاميين في الساحة، و أن هناك قاعدة عريضة من الإسلاميين شاركت في الثورة لكن تعاملوا معهم بأنهم شئ واحد بهدف إبعادهم، و لذلك جاء شعارات الإقصاء لهم جميعا، و نسوا أن السياسية من قواعدها الثابته أنها لا تؤسس علي الثوابت لوحدها، بل القدرة علي التحكم علي المتغييرات، و لم يكون لديهم أدوات تتحكم في المتغيرات، و لا العقليات التي تستطيع أن تفهم أن التحولات الاجتماعية الكبيرة تحتاج لقدرة عقلية تستوعبها و تعمل علي كسب أكبر قاعدة اجتماعية لنصرة الثورة و شعاراتها، كان عليهم أن يفهموا كل شيء قابل للتغيير، و لذلك أرادوا السلطة و قبضوا علي مفاصلها دون سند شعبي حقيقي يضمن نجاحها، و قدموا ما كانوا يعتقدون خيرة عناصرهم للحكومة، فكشفت الممارسة أنهم عناصر ضعيفة تفتقد الكفاءة السياسية قبل الإدارية، ففشلت الحكومة و انعكس الفشل علي الشارع الذين قد أيدهم، و و فقدوا تحالف الشارع. و كل ذلك كان نتيجة لغياب الكرزمة ذات الحكمة و الذهن المتقد التي تستطيع أن تقود البلاد بتجميع أكبر قاعدة اجتماعية و في نفس الوقت يكون ميزان القوة لصالحها، لكن العقليات المحدود لا تصنع إلا أشياء محدودة و الفشل.
3- خرج الحزب الشيوعي من المعادلة السياسية، و أصبح لا يستطيع أن يتحكم في الأحداث، فخرج ليستقر به المقام في خانة المعارضة التي يجيد اللعب فيها، و رجع ينادي بالتحول الديمقراطي، و يجب العمل من أجله، رغم أن خطابه السيسي اليومي غير متسق مع تلك الشعار. أما القوى الآخرى التي كانت متحالفة معه وجدت نفسها مسيطرة سيطرة كاملة علي تحالف قوى الحرية و التغيير ” قحت” و هي التي تفاوض العسكر لذلك لكي تضمن بقائها مدت حبال الوصل مع العسكر و إرتاحت علي ضلهم، و كسبت رضائهم ليس لإيمانها بهذه المعادلة لكن لتحقيق رغباتهم في السلطة، أن يكون لهم نصيب في مجالس الحكم، ثم تعين عناصرهم في الخدمة المدنية، هؤلاء لا يملكون قاعدة شعبية، و لا يعتقدون أنهم سيجدون فرص بعد الفترة الانتقالية لذلك عليهم توظيفها لصالح رغباتهم الشخصية، و العسكر لا يريدون غير الطاعة و تقديم حق الولاء. هؤلاء آهل قحت متناقضون حتى في خطابهم السياسي ينتقدون سياسة الحكومة الاقتصادية، و يعتقدون أنها وقعت في قبضة البنك و صندوق النقد الدوليين، رغم أنهم يمثلون 70% من مكون الحكومة و بالتصويت يستطيعون تغير مجرى السياسة لكنهم لا يفعلون لأنهم وقعوا في حضن التحالفات الاقليمية. هؤلاء هم الذين وراء مقترح مجلس الشركاء و في نفس الوقت هم الذين ينتقدون تكوينه، هي عقليات لا تستطيع أن تقدم المبادرات الوطنية، هؤلاء يعرفوا كيف يوظفوا الأشياء لتحقيق رغبات حزبية.
4 – المكون العسكري و الحركات المسلحة هؤلاء يمثلون عقلية واحدة لذلك كان التحالف بينهم سريعا. أن عقل البندقية هو عقل لا يحبذ النقد و الرآي الأخر، يريد فقط الطاعة، لذلك ليس لهم مصلحة في عملية التحول الديمقراطي، و لا يرغبون في إزالة ثقافة النظام الشمولي بل يريدون أن تسود هذه الثقافة لكي تحفظ لهم السيادة على الفترة الانتقالية، مادام السياسيون المدنيون الذين معهم علي السلطة رغبتهم في السلطة و ليس في انجاز عملية التحول الديمقراطية، و حتى مرجعياتهم و تاريخهم لا يقول أنهم دعاة ديمقراطية، هذا التناقض استطاع العسكر توظيفه لمصلحة صراعاتهم مع الذين يختلفون معهم. القضية ليست في العسكر الآن العسكر يبنون مناوراتهم من خلال عجز و تناحر القوى المدنية.
5 – حزب الأمة بعد رحيل الإمام، أصبح أمام تحديات جسام، خاصة أن الحزب منذ النشأة الأولي لم يقوم علي المؤسسية بل اعتمد علي الكارزمة، و غيابها يشكل أكبر تحدى للحزب، الأمر الذي جعل الحزب يتفاعل مع الأحداث و لا يصنعها. زمن الكارزمة كان الإمام كل أسبوع يقدم مقترحا و ينقل الناس من تفكير إلي أخر، هذه المرحلة انقطعت تماما، و أصبح دور الحزب التعقيب علي الآخرين. في أخر مؤتمر صحفي يعقده رئيس الحزب المكلف قال عن عملية السلام “لا توجد رؤية موحدة بين القوى السياسية و المدنية تجاه القضايا الكبرى هناك فقط اجتهادات فردية لضم حركتي الحلو و نور إلي اتفاقية السلام ” في عهد الإمام كان يقدم مباشرة المبادرة للإصلاح، و يطرح رؤية للخروج من الأزمة. لكن الآن الحزب كل القيادات تريد أن تحافظ علي للحمة الحزب دون فتح ملفات تحدث تصدعا داخل بناء الحزب، فالوطن لا يبنى بتجميد القضايا بل فتح كل الملفات و أن يقدم الكل رؤيته. فحزب الأمة الذي كان من الأحزاب المبادرة لعملية التحول الديمقراطي و يعمل من أجلها، و يحرض العقل من إجل إثارتها بشكل مستمر، أصبح الحزب صوت الحزب خافتا و تحول إلي حزب يطالب بجزء من القسمة الضيزي في هياكل السلطة، إذا كان الحزب بقيادة الإمام قد رفض المشاركة مع النظام الشمولي، الآن الشمولية لم تتغير بل تغيرت الوجوه و لكن صوتها طاغي ليس بسبب كما يشيع البعض بسبب الدولة العميقة و لكن بسبب عقليات شمولية متدثرة بشعارات ديمقراطية. و الأقلية دائما لا ترضى الذهاب لصناديق الاقتراع و تخلق ألف مبرر لذلك. كان ذلك في مصر عهد عبد الناصر و في العرق البعث و في سوريا البعث و في عهد القذافي كل هؤلاء و في كل الدول الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي، كل خافوا من صناديق الاقتراع.
6 – الإسلاميين بكل مجموعاتهم و الاتحادي الأصل و قوى أخرى قد اقعدت نفسها في مقاعد المتفرجين بعد فشل الحكومة الأولي و حالة التخبط التي تمارسها “قحت”و الآخرين، و حتى اتفاق جوبا استطاع أن يحدث ثورة في العديد من مناطق الوسط و الشمال و الشرق، و هؤلاء رفضوا القسمة الضيزي الأمر الذي جعل نائب رئيس مجلس السيادة مخاطبتهم في حشد طبية الخواض، و يقول لهم أن الاتفاق لم يغلق بل هو مفتوح و يجب طرح آرايكم. أن فشل الحكومة في إصلاح الاقتصاد و تخفيف وطأة الغلاء علي الشعب فقدت التأييد الشعبي، و أصبح الشارع مقسوم في معادلة سياسية سالبة، تعتمد علي توازن القوى و الجلد تحت الحزام الكل علي بعضهم البعض، الكل متوجس من الآخر. و غابت الكارزمات التي كانت تحدث أختراقا في مثل هذه الحالات، و تقدم مبادرات وطنية تحدث تحولا جديدا في الأجندة.
أن غياب الكارزمات لا يعني الانتظار حتى تستطيع هذه الأحزاب أن تصنع كرزمات جديدة، بل أن تحدث الأحزاب إصلاحات حقيقية فيها و تطوير للمؤسسة، لكن الإصلاح نفسه يحتاج إلي عقليات و عناصر مبدعة، و هي غير متوفرة الآن خاصة في قبائل اليسار، لذلك تجد أن العناصر التي ترفع شعار الإصلاح و التجديد الفكري يتم التأمر عليها، و يتم طردها من الحزب حتى لا تؤثر علي قيادات تاريخية فقدت قدرتها علي العطاء، و أصبح همها أن تحافظ فقط علي مواقعها، و خاصة الذين كان الحزب قد جعلهم مفرغين للعمل السياسي سنين طويلة، و يأخذون مخصصات حزبية، هؤلاء لا يسمحون بأي إصلاح أو تغيير، لأنه بالضرورة سوف يشملهم التغيير. القضية الأخرى؛ أن التحول الديمقراطي يحتاج إلي تجميع أكبر قاعدة اجتماعية حوله، حتى تكون حامية له من شرور الانقلابات و النزاعات المسلحة. و يتم ابعاد مشاركة كل الذين ارتكبوا جرما أو فسادا هؤلاء ليس لهم علاقة بالديمقراطية. أما الآخرين يجب أن يتم اشراكهم في العمل السياسي حتى تتوسع قاعدة الداعمين لعملية التحول الديمقراطي. أن الذين يحاولون أرسال الشعارات الإقصائية و العدائية، هؤلاء لا يريدون استقرار للسودان، و هؤلاء هم الأعداء الحقيقيين للوطن و أن تدثروا بشعارات الحرية و الديمقراطية. نسأل الله حسن البصيرة.

صحيفة الانتباهة