مقالات متنوعة

علي مهدي يكتب.. دهاليز


أحبائي

الدهاليز تمضي بنا بين فضاءات المعمورة، الأحداث فيها تستعيد كل مرة منها القصص الموحيات بضرورات الاستعادة لها التواريخ.

وهي كانت عندي أبعد ما تكون من الشخصي، تدخل في العام، وتستذكر في المشهد ما يربط بين القُطري والإقليمي والأممي.

مصر المؤمنة دخلتها أيضاً غير بعيد من تصاريف الفن. للفنون تصاريف أيضاً، تذهب بك حيث تخطط، أو في غير ذلك، فتعود تبني من جديد. تدفعك تماماً حيناً، وفي الأخرى تتأخر عنك فتعود تحاول.

ما أن انتهينا من تصوير آخر مشاهد في الفيلم (عرس الزين)، وانصرفت عنه، لا الحكاية ولا المتابعة كانت يومها تستحيل، أو أقل من ذلك، كما كنا لا نحظى بوسائط الاتصال إلا قليلاً، قليلاً جداً.

كان للفندق الكبير على (بحر أزرق) جنتان، الأولى في المدخل المنبسط، فسيح، تحلّيه أعمدة ترتفع، تعلوها تيجان، ما شاهدت مثلها في عمارة الخرطوم القديمة، وهي بين بين، بين أنها فيها من التصاميم التركية، والغالب عندي أنها أقرب إلى العمارة المصرية، الأعمدة لم ألحظها ولا عند عمارة (أبو العلا) الجديدة، كانت صماء بلا برواز، الأعمدة تستقيم، وتدخل في الطابق الثاني عنوة، بلا استئذان، والجنة في الفندق الكبير – يوم كان اسمه الكبير لأنه كبير – الجنة الثانية كانت وسائط الاتصال العالية التقنية وقتها، تأتيك الأخبار من حيث لا تدري، وتدري أحياناً، والفندق الكبير مفتوح للكل، إلا من لا يُحسن الهندام، كانت الظهيرة فية أجمل، يجتمع الشعراء والكتاب وأهل الصحافة وأسياد الإعلام والتجار الناجحين، وأهل الفن، مَغنى وتشخيص، يجلسون على أرائك تعلوها المساند، والساقي الأنيق، يوزع الشراب الطهور، ليمون معمول بي محبة، تشرب ولا تنطق بعدها كلمة، تحتاج وقتاً ليستوعب العقل تغييرات السكر في مجرى العيون، فتطوف بك الخيالات، ولا تدري من كان في الخاطر، أو سافر أو قاب قوسين أو أدنى. هنا في جلستنا تلك وكنتُ حريصاً عليها ما استطعت، مكتبي في وسط الخرطوم عموم، قد آتي راجلاً إذا ما الصيف أحن، أمشي بين الأشجار على شارع النيل، والصحبة حاضرين، والأخبار عندهم والتهاني مستمرة

الفيلم (عرس الزين) الذي لم يعرض بعد في الخرطوم ينتقل بين القاهرة وقرطاج، في مواقيت أقرب، وحلمي بها القاهرة يقترب ويقترب.

وجلستُ يومها أبحث عنها المعلومات، زرت كل من عشق القاهرة مثلي، وحدثوني عنها الصفحة الأخيرة في يومية الأهرام (الجرنان)، ونظرتُ أبحث عنه، اسم الأستاذ الناقد السينمائي الكبير عليه الرحمة كمال الملاخ وهو الرئيس والمؤسس لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، واحد من أهم تظاهرات الفنون العربية والعالمية. وبحثت ومعي الأحباب وعرفنا أنه بعد أيام سيُعقد المهرجان، والأحباب مشكورين دفعوا فينا الآمال للذهاب، والأسئلة قائمة ولا ترتد، كيف يُعرض فيلم سوداني فيك يا مصر بدون حضور أهله؟ صحيح ان الإنتاج للصديق والمخرج الكبير الكويتي خالد الصدّيق، ولكن كنتُ بعدها بليالي في القاهرة، تحتفي بي، دخلتها أول مرة أبحث عن حضور فنان يتابع عمله الأول، ولم يشاهد منه ولا لقطة، وتلك حكاية، لكنها القاهرة آلتي حلمت بها أخذتني إليها وأدخلتني في إهابها. وسكنتني قبل سُكناها، وتلك حكاية لها ما بعدها، ولم يُعرض الفيلم، وعُدنا وفي الخاطر تحيات أولية منها القاهرة التي أحب وأعشق. وبعدها بسنوات صارت سكني وبيتي ومكتبي وعنواني. وضاعت فرصة مشاهدة نفسي في شخصية (الزين) كما حلمتُ بها، وما ضيّعت فرصة للتجويد في الأداء إلا فعلتها. جلست أولاً للأستاذة الكبار، علّموني، ثم وضعوا لي خارطة طريق، سلمتُ بها من التشظّي، والمبالغة، والغياب عن حضور ومتابعة الأداء في كل الأوقات. ولذلك كنتُ سعيداً جداً بها الشخصية التي أخذتني إلى آفاق أرحب منها القاهرة التي نحب ونعشق، إلى فضاء الكون الفني الوسيع.

ورجعتُ لها القاهرة بعد تجوال في مدن المعمورة ومهرجانات السينما العالمية، لها طعمها وشكلها وما يميزها عن فضاءات الفنون الأخرى، فيها سحر الإعلام، تقف للمصورين، وتتحدث لوسائط الإعلام، وتجلس من حالة إلى حال، وتبني منها المشاهد وأنت جزء منها، أصيل برنامج لغد تكون فية ممثلاً، تهتم بالتجويد، وتُدرك أن المسافات واجبة لتحفظ لها الفنون أسبابها في دفعك للأمام.

لم أغِب عنها القاهرة كثيرًا جئتها في شتاء لم تتغير فيه مظاهر الحب والاعتراف بالآخر عندها، وكما هي مركز إشعاع للفنون تبدّت يومها في ثوبها الجديد الذي تجيد أن تقف به بين العواصم.

قبلها بعام في دمشق التقيت بالأب المؤسس الكاتب الراحل سعد الدين وهبة، كنا قبلها بعام نجلس في بهو فندق الشام الفخيم، الأحباب الممثل أسعد فضة وبعدها تجاورنا المجالسة يوم عملنا في هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام، والممثل الصديق دريد لحام، ننتظر الحبيب سعد وهبة، نذهب للقيادة، نشرح أمرنا، ورغبة تتعاظم في تأسيس أول اتحاد يجمع مبدعي الأمة العربية.

كان ذاك في نوفمبر، في الأول منه. واتفقنا أن ندخل القاهرة في ديسمبر. وكان هو قد رتّب الامر، لينعقد المؤتمر التأسيسي فيها رغم غياب أعلام الدول العربية، كانت المقاطعة العربية وقتها قائمة.

أنظر معجزة الفنون وجئنا كلنا، من كل العواصم العربية، لم يتغيب أحد يومها انتصرت الفنون على السياسة، ولأنه صاحب المبادرة انتُخب الراحل محمد سعد الدين وهبة أول رئيس للاتحاد العام للفنانين العرب والقاهرة مقراً له ولأنها السياسة لا تقبل الهزيمة دخلت علينا من أبواب تقسيم المراكز فجلسنا لليلة تامة نُعالج الأمر بأقل الخسائر الممكنة وعرفنا التقسيم الجغرافي للوطن العربي فقلنا المغرب العربي والمشرق ووادي النيل واحتفينا يومها بميلاد الكيان الجامع ومشينا به سنوات من العمل المتصل المتقن في القاهرة التي أعطت بلا حدود وجلستُ في مكتبي بالطابق الثالث في المبنى رقم ١٧/ شارع قصر النيل سعيداً بالعمل إلى جوار الأب المؤسس. ومنها خرجت التجارب والأعمال المشتركة وجاء عدد كبير من الفنانين العرب ودخلنا في أول تجربة لعرض مسرحي عربي (واقدساه) للكاتب يسري الجندي وإخراج المنصف السويسي، عرض مسرحي وقف على خشبات المسارح في دمشق وعمان وبغداد ومن قنوات البث التلفزيوني العربي، ثم جلسنا للإعداد والتحضير لتنظيم أول مؤتمر علمي (مؤتمر المقدسات الدينية في فلسطين)

بحضور كبير ومشاركة طيبة مع الجامعة العربية التي استضافت الفعاليات في قاعاتها يوم كان معالي الدكتور عصمت عبد المجيد أميناً عاماً لها تلك حكايات أكتب عنها في كتابي (كنتُ أمينا للفنانين العرب).

الاسم من اقتراح الصديق الراحل حسن ساتي التقينا في لندن نتجاور السكن ونجلس في المقهى الاشهر في (الوايت ليس) كنا ننتظر دوماً الأحباب سيدي الطيب صالح ومحمود صالح وإن تأخروا فننتظر واقترح علي الاسم وضحكنا يومها على بعض الحكايات منها مصر الحبيبة.

وفي خواتيم تسعينات القرن الماضي انتقل المؤسس والرئيس سعد الدين وهبة إلى الرحمة الواسعة وقبلها بقليل بشهر أو أقل كنت في أمريكا وعاد هو من باريس وطلب مني العودة مباشرة دون الذهاب للخرطوم وجلست إليه صباحاً باكراً وطلب مني أن أكمل الدعوة لعقد الجمعية العمومية للاتحاد في موعدها متزامنة مع افتتاح أيام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وما أن غادرت للخرطوم إلا ورجعت على عجل، وكان قد انتقل للرحمة الواسعة، وحدث الكثير وجرت تحت جسر المحادثات الكثير منها ما يدفع فينا الأمل وغيرها ما يحبط بالقدر الممكن وكنت قد التقيت أيام العزاء بالصديق الفنان معالي الوزير فاروق حسني وفيه من الحكمة ما دفعني بمصارحته بما يليني من عقبات حول مستقبل الاتحاد والمقر وكنت ولمدة شهر أتولى رئاسة الاتحاد، باتفاق من حضر من نواب ألرئيس وأعضاء المكتب التنفيذي. وجاء يوم افتتاح المهرجان وكنت حُكما أدبّر بعض مسؤولياته، وجلستُ في مقعدي بعيداً عنها التفاصيل،

واستدعيت على غير العادة لاستقبال معالي وزير الثقافة في المدخل الرئيسي للقاعة، ودخلنا سوياً قاعة الاستقبال الكبرى، كنا وحدنا، وسألني عن تفاصيل جلسة الغد لانتخاب القيادة الجديدة للاتحاد، وأنهم يدعمون بشدة ترشيح الدكتور فوزي فهمي رئيساً وترشيحي أميناً عاماً في ورقة واحدة.

وأضاف (شوف يا علي بيه انت الآن مرشح مصر)

وضحكنا، وخرجنا معاً ممسكًا بيدي (برتوكول) جديد، وإعلان مسبق لنتائج الغد، وجلسنا سوياً، وخرجت بعدها للاجتماع مع الفنانين، وكانت مرحلة فاصلة بين التأسيس والاستمرار، وهل هي ترتبط بالمؤسس؟ أم أنها سياسات الدولة الكبرى؟ وبحثها عن الريادة وحسها القومي العربي. ونقاشات طويلة حتى مطلع الفجر، لماذا وكيف وهل، حتى قبل الصباح بقليل.

وأصبحنا والصديق الدكتور فوزي فهمي رئيساً، وكنت أميناً عاماً لثلاث دورات متتالية.

وتلك حكاية أخرى في سبت قادم في جمالها مصر

صحيفة الصيحة