مقالات متنوعة

الجدل حول الدين والدولة بين المزايدة والتهييج والاستغلال والحقيقة


ظل الجدل حول موضوع الدين والدولة وثنائية الديني والسياسي قضية تؤرق الحركة السياسية السودانية منذ الاستقلال، حيث شكل غياب تعريف لها في الدساتير من أعقد القضايا الخلافية بين الشمال والجنوب قبل الانفصال ولاحقا عند بروز الحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.

ان إشكالية الديني والسياسي قضية تاريخية مرتبطة بتطور الفكر السياسي ونظرياته فيما يتعلق بمفهوم الدولة من جانب وآليات الحكم والسياسة من جانب ومن جانب آخر دور الدين في المجتمع.

يمكن تلخيص ثلاثة اتجاهات في هذا الجانب:
-الاتجاه الأول تصالحي يقوم على استيعاب دور الدين في المجتمع باعتباره عاملا مهما في زرع القيم والأخلاق في نفوس عامة الناس ساسة وتثويرهم اجتماعيا ، حيث أن كل الأديان تدعو لقيم العدل والخير والمساواة والأخلاق وتمثل مرحلة دولة المدينة والخلفاء الراشدين لاسيما فترتي أبوبكر وعمر أنقى مراحل هذه العلاقة الصالحية. اتسم بعدها التاريخ الإسلامي بسلسلة من الصراعات الدموية حول الحكم والسياسة طبعت عصوره اللاحقة..
-الاتجاه الثاني الاستغلال:

من رجال السياسة للدين، يستخدمون الدين لتحقيق اطماعهم وماربهم يطوعون النص الديني من اجل شرعنة أفعالهم وتصرفاتهم ويامرون رجال الدين بإصدار الفتاوى التي تعطي تصرفاتهم مشروعية دينية زائفة في اطار خداع الناس. وتمثل مرحلة مابعد دولة الخلافة إلى يومنا هذا نموذج لهذا الاتجاه.

الاتجاه الثالث عدائي تمثله مرحلة مابعد الثورة الفرنسية التي نادت بإبعاد الدين عن السياسة كرد فعل لتزاوج الكنيسة مع الحكام الذي انتج الاستبداد وتناسل منه متناقضات تتعارض مع قيم الدين. إزاء هذا الوضع نشأت مفاهيم العلمانية كمذهب سياسي لاديني لمواجهة استخدام الدين في السياسة.

ان الطبيعة البشرية المتسلطة جعلت من الدين مؤسسة تصل بها إلى اطماعها الفردية والجماعية وهذا يؤدي إلى إفساد السياسة والمجتمع والدخول في صراعات وحروب طويلة.
نشأت الحركات الإسلامية السياسية(الاخوان – والجماعة الإسلامية في باكستان – والخمينية في إيران) ومتناسلاتها في العالم الإسلامي في ظل صراع ثنائية الدين والسياسة تبنت في بداياتها مفهوم الدولة الدينية من خلال شعارات عامة براقة بغرض الاستقطاب والتهييج العاطفي بعيدا عن دراسة الواقع وتحليل معطياته ومحركات الصراع داخله.
أدى هذا الخلل بهذه الحركات أن تتخذ من ثنائية الدين والسياسة طابعا شديد الحدية ليصبح من يختلف معها مختلفا مع الدين حيث نصبت من نفسها وكيلة للدين تكفر الخصوم السياسيين وتستبق الحدود الفاصلة بين الدعوى والسياسي وتهدد المواطنة المتساوية بل تحتقرها ماافضي إلى مجتمعات مشوهة يسودها الاستبداد والتخلف والتداخل بين الديني والسياسي وافضي بها إلى نسخ متقدمة من التطرف والإقصاء والتكفير اضر بالدين وجوهره وخلف صورة سوداء قاتمة(داعش والتكفيريين نموذجا).

السياسة تقوم على النسبية والصراع السياسي تتنافس فيه القوى على أساس البرنامج والفكرة والرؤية لمشكلات الواقع الاجتماعي والاقتصادي، يمثل الاختلاف جوهر العملية الديمقراطية التعددية السياسية والياتها في الأحزاب والمنظمات والتكتلات الانتخابية. هذه السمة النسبية تتطلب الفرز بين الديني والسياسي بحيث لانعطي السياسي النسبي صفة القداسة، ولانعطي الديني المطلق صفة النسبية،وفقا لمقولة الأستاذ بدر الدين مدثر لا لتسييس الدين ولا لتديين السياسة..

تجاوزت قيادات مؤثرة في الحركة الإسلامية المفاهيم الخاطئة في العلاقة بين الدعوى والسياسي، يقول راشد الغنوشي(العقل المسلم في الحركة الإسلامية قد انفصل عن الواقع بسبب فشله في التخطيط وفهم واقعه خاصة بعد عصر الانحطاط ومخاوف الحاضر ماكان له نتيجة على انفصال الدين عن السياسة)..

وقد ابتدر المرحوم الدكتور حسن الترابي في أخريات أيامه مشروعا فكريا سياسيا قائما على مرتكزات فصل الدعوى عن السياسي وطرح من خلاله آراء متقدمة انتقد فيها تجربتهم في الحكم وخلخل كثير من مسلمات ومنطلقات الحركة الإسلامية وسار على ذات النهج كثرد. على الحاج د. التجاني عبدالقادر والمرحوم د. الطيب زين العابدين والمحبوب عبدالسلام ومبارك الكودة.. الخ وتقف تركيا التي يتخذها الإسلاميون ملجأ لهم في منصة الدولة المدنية العلمانية الديمقراطية ويتعجب زعيمها أردوغان من فهم الإسلاميين للعلمانية في لقاء تلفزيوني مبذول في الفضاء الإعلامي!!!
ان المتتبع هذه الأيام يلحظ لغة التهييج الإعلامي والمزايدة والمتاجرة التي يتبعها دعاة تحالف الإسلاميين بمختلف منصاتهم حول اتفاق المبادئ بين الحلو والحكومة الانتقالية، دونما ان يكلفوا أنفسهم عناء البحث في الاتفاقيات التي عقدوها في فترة حكمهم المنطوية بثورة ديسمبر الخالدة.
في اتفاق برتوكول مشاكوس الموقع بين حكومة الإسلاميين والحركة الشعبية في 18/10/2002ورد في الاتفاق مايلي:
2-6تضمن حرية المعتقد والعبادة والضمير لاتباع كل الأديان والمعتقدات والأعراف ولايجوز التمييز ضد أي شخص على هذه الأسس.

3-6تولي جميع المناصب بما فيها رئاسة الدولة والخدمة العامة والتمتع بجميع الحقوق والواجبات يتم على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو المعتقدات الأخرى..
6-4 يمكن أن تجري وتنظم كل الأمور الشخصية والعائلية، ومن ضمنها الزواج والطلاق والإرث والتنصيب والولاء وفق القوانين الشخصية بما فيها الشريعة أو القوانين الدينية الأخرى أو العادات والأعراف.
6-5 احترام الحقوق الدينية حرية العبادة-انشاء المؤسسات الخيرية- أداء الشعائر – طباعة الإصدارات – التدريس- المساهمات- التدريب – العطلات الدينية – الاتصال بالمجموعات الدينية – الخ
على ضوء برتوكول مشاكس 2002 والمبادئ التي أقرها بنيت عليها اتفاقية نيفاشا 2005 الذي أكد في الفصل الأول على احترام الحقوق الدينية التي أشار إليها بروتوكول مشاكوس (يرجع للمواد 6-أ إلى ط)
وح-1-4).. وهي ذات المبادئ المضمنة في اتفاقية نيفاشا 2005 وعلى ضوء الاعتراف بها والدستور الانتقالي تمت اتفاقية أبوجا 2006 مع حركة تحرير السودان بقيادة مناوي والدوحة 2007 مع حركة التحرير والعدالة بقيادة التجاني سيسي.
ذات المبادئ هي ماوردت في اتفاقية جوبا للسلام أكتوبر 2020:
-المواطنة هي اساس الحقوق والواجبات دون تمييز بين الأشخاص على أساس العرق أو القبيلة أو الدين أو النوع أو الجنس أو الأصل.
-وقوف الدولة على مسافة متساوية من الأديان والثقافات دون انحياز أثنى اوديني أو ثقافي.
جاء اتفاق المبادئ الأخير بين الحركة الشعبية شمال-الحلو
والحكومة الانتقالية متبنيا ذات المبادئ السابقة.
لقد ظل المزايدون يخاطبون العاطفة الفجة لا العقول لمزيد من الكسب والتهويش الإعلامي والتجهيل.
ان الدولة المدنية الديمقراطية تؤسس على حق المواطنة المتساوية وهي كيان مادي لايوسم بسمة دينية ووظيفتها التجرد للمصلحة العامة لكل مواطنيها بمختلف انتماءاتهم.وعلي صاحب كل دين تمثل قيمه الدينية في عمله العام.
ان الجدل والتهييج الذي يثيره الإسلاميون حول العلمانية يرجع بهم إلى مربع البدايات الأولى في احتقار العقل منطلقا من عقلية المتاجرة في محاولة بائسة لجر البلاد إلى صراعات عدمية بعيدا عن جوهر الصراع الحقيقي بابعاده السياسية والاجتماعية.

محمد الأمين ابو زيد – صحيفة التحرير 0؛