محمد جميل أحمد يكتب حيدر بورتسودان … اهتزاز المصير الواعد!
مقولة “الزمن الجميل” باتت لازمة تَحسُّر على أزمنة منقضية
قد لا يبدو الحديث عن مسيرة فنان، حديثاً عن المدينة بالضرورة، لكن، وبصورة ما، ثمة ما يعكس طيفاً لملاحظات عدة حين يقترن اسم فنان بمدينة ما، وبطريقة قد لا تخلو من قابلية لمصائر متواردة، لا سيما أن مطلق النسبة والتناسب في اسم الفنان الذي يحمل المدينة قد لا يكون اعتباطاً!.
إن مقولة “الزمن الجميل” التي أصبحت لازمة تَحسُّرٍ على أزمنة منقضية لجمال الماضي، قد لا يبدو فيها انطباق الجمال على الزمن وأهله بسوية واحدة
وهنا يمكننا من خلال التفكير في هوية “الزمن الجميل” أن نقع على ما قد يفسر لنا أشياء ربما بدت مختلفةً نوعاً ما، لكنها، في خلاصة التحليل، قد وجد الباحثُ لها قرائن مشتركة، يمكن تفسيرها بدالة “الزمن الجميل” أكثر من أي سبب شخصي آخر.
ربما أغفل البعض أن معنى “الزمن الجميل” هو مزاج لصناعة سلطة إعلامية متماهية مع سلطة الدولة، يمدّه مزاج عالمي مؤاتٍ، وبهذا المعنى، فقد يكون ما يحمل الناس في زمن ما على مزاج القراءة الممتعة، أو السماع الأنيق إنما هو، بشكل من الأشكال، مزاج تلك السلطة عبر خطابها الناعم في نظامها الإعلامي، وبطبيعة الحال في كل سلطة ناعمة ما يحفّز على الإغراء والتقليد. وإطاعة الأوامر غير المرئية!
في تقديرنا أن أزمنة التغيير الكبرى كالثورات، تعتبر من الدوال الكاشفة عن اختبار مقولة “الزمن الجميل”، فالثورة كونها ظاهرة اجتماعية تفرضها إرادة للمزاج الجمعي في لحظة تاريخية ما، لا يعني أن لقانونها النادر قدرة مستمرة على إنتاج الزخم الذي أحدث التغيير، وهنا سنجد أن البنى القديمة وما كرّسته من نظم إدراك وتقاليد وتصورات ستظل بقاياها الخفية قادرة على الاشتغال في أمكنة غير مادية من المجتمع وتصوراته، أي أن تلك البنى تظل قادرة على الاستمرار بسبب ضغط التقليد والعادة، لا سيما بعد 30 عاماً من أعمال نظام أيديولوجي جاء ليغيّر عقائد الناس لا واقعهم السياسي فحسب، (كما حدث في السودان).
والحال، في ظل أنظمة كهذه، لا نقع على آثار خراب لسلطة سياسية فحسب (على فداحة ذلك الخراب)، بل والأخطر من ذلك، آثار تدمير أيديولوجي لمفهوم الثقافة والمجتمع، بخاصة في المجتمعات التي لم يترسخ استقلالها الثقافي، بعيداً من التأثير المباشر للسلطة السياسية.
اقرأ المزيد
شرق السودان وتداعيات الحرب الأهلية الإثيوبية
السودان والسعودية… التفكير خارج الصندوق
شرق السودان… التحدي القائم!
ذلك أن من تناقضات مقولة “الزمن الجميل” (وهي مقولة تفترض أن أهل ذلك الزمن أفضل حالاً، من دون شرح كيفية ذلك والتحقق من صدق الدعوى أو كذبها) أنها تتمثل في القطيعة التي تحدث للأجيال الجديدة مع جيل “الزمن الجميل”، الأمر الذي سيردّنا إلى حقيقة أن مزاج “الزمن الجميل” هو الذي صوَّر لأجيال اليوم وفقط بألوان الحنين جمال ذلك الزمن، لا البشر ذاتهم. بالضرورةـ وذلك لسبب بسيط وهو أنه إذا كان ذلك “الزمن الجميل” زمناً حقيقياً ومطّرداً في تقدمه لأصبحت تقاليده إلى اليوم سنناً متجددة من دون قطيعة (كما يحدث في المجتمعات الديمقراطية)، حيث نجد مفهوم “الصيرورة” في وعي تلك المجتمعات بمتغيرات الأزمنة هو الحاكم لحراكها وتجددها، لا مفهوم “القطيعة”.
وإذ لا يمكننا تحديد قدرة بعض المبدعين، من حيث درجة تأثير “الزمن الجميل” في مواهبهم، فإن ما نرصده اليوم من مسيرة المغني والفنان السوداني حيدر بورتسودان ما قد يفسر لنا حدود الموهبة في علاقتها بمزاج “الزمن الجميل”.
فحيدر الذي تفتّحت موهبته في عقد كانت فيه بقايا زمن جميل (عقد ثمانينيات القرن الماضي) بدا واضحاً ليس فقط في موهبته الكبيرة على التلحين والغناء الجميل والمتفرد، بل أيضاً بدا قادراً بوضوح على فرز اختيارات مدرسته الفنية في التلحين ومزاجه في الشجن (عبر أغانٍ كان يغنيها لمطربين آخرين معاصرين مثل زيدان إبراهيم والهادي الجبل ويوسف الموصلي).
فمن يسمع الأغنيات الجميلة لـحيدر بورتسودان في زمن مبكر، مثل “مشاعري” و”الفرح الخرافي” وهي من أغانيه الأولى التي لقيت انتشاراً واسعاً في العاصمة السودانية الخرطوم عبر سهرة تلفزيونية في عيد الأضحى عام 1988، قد يتعجب وهو يسمع أغنياته التي غناها في عقد التسعينيات مثل “سيد الناس” أو الأغنية التي غناها لمدينة بورتسودان باسم “حبيبة القلب” (وهي من كلماته وألحانه وأدائه) وغيرها، فيجد فرقاً كبيراً بين أغنياته المبكرة وأعماله التي غناها أخيراً.
الملاحظ هنا أن الفرق كشف تماماً، ربما، عن قطيعة في مكان ما، في تقديرنا، أو ارتداد عن المستويات الفنية الرفيعة من الألحان التي غناها حيدر في شبابه الباكر (عقد الثمانينيات من القرن الماضي).
هل لمزاج “لزمن الجميل” قدرة على تغيير المبدع والفنان بصورة حاسمة من حيث قدرته على كشف وصناعة هوية المبدع المتفردة فيه، أم أن مزاجاً لزمن آخر يعكس ارتداداً عن مستويات الغناء الرفيع هو الأكثر تأثيراً في المبدع والمغني؟
وإذا كانت فرادة الإبداع والموهبة الكبيرة تسوّغ للمبدع الصمود على مستويات رفيعة من أدائه الفني مهما تغير الزمن السياسي (كالمغني زيدان إبراهيم – والهادي الجبل)، فماذا يعني ذلك بالنسبة إلى حيدر، الذي كانت موهبته الكبيرة تنطوي على أصول لحنية يمكن أن يتفرع عنها كثير من الألحان الجميلة؟
طبعاً من المجازفة هنا أن نقيس عاديةَ الناس الذين لهم قابليات مرنة للتأثر بالزمن على فرادة المبدع والفنان، لكن بالتأكيد ثمة علاقة بين الزمن والفن.
وهي بطبيعة الحال علاقة مركبة ومعقدة، فبعض أصحاب المواهب الكبيرة متى ما أدركوا حاجتهم للتوقف، توقفوا احتراماً لتاريخهم الفني.
لقد كانت الأغنيات الجميلة التي غناها حيدر وأسر بها قلوب سامعيه متزامنة مع زمن جميل حقاً (سنوات الانتفاضة الثانية 1985 – 1989)، إذ كانت الحرية والانطلاق والإحساس بانفتاح الحياة والثقة بالمستقبل، من أهم علامات النصف الثاني من عقد الثمانينيات في القرن العشرين…
وإذا ما توقف المرء حائراً حيال أطوار “الزمن الجميل” (أو الرديء) في أثر اهتزاز الموهبة أو ثباتها (وذلك مما يعسر ضبطه بمقياس واحد لدى المبدعين)، فهل يمكن لأثر المكان – المدينة، أن يلعب دوراً في متغيرات الهوية الفنية للمبدع والمغني؟
ومن ثم هل يمكن القول: إن طبيعة الحياة في مدينة ما، تترك بصماتها على المبدع وتنعكس في نماذج أغنياته؟ وكيف يمكن لمدينة كمدينة بورتسودان التي بدت، عبر بعض سكانها وأحيائها، مدينة، ظاهر الاندماج فيها أقل من باطنه، وبالحد الذي لا يعكس طبيعة الاجتماع السياسي والأهلي في المدينة، نحواً من التجذر ما يتجاوز سطح المعاملات اليومية؟
على الرغم من كل تلك التساؤلات، يمكن القول أيضاً: إن مزاج المدينة (بورتسودان) في حقبة اتّسمت بالحرية والثورة والأمل في المستقبل (كالنصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين) ناهيك عن مدينة صُممت لتكون مدينة منفتحة في بدايات تأسيسيها كميناء حديث للسودان، لا شك أن مزاجاً كذلك لعب دوراً كبيراً في إطلاق موهبة تلحينية جبارة وواعدة كالتي انطلق بها حيدر بورتسودان بكل ثقة في عقد الثمانينيات، على ما تشهد جملة من أغنياته الجميلة في ذلك العقد، وغزا بها العاصمة الخرطوم ثم انتشر منها في كل السودان بعد ذلك.
كانت حداثة ألحان حيدر بورتسودان وشجنها العاطفي العظيم قد وَطّنت في وجدان شباب جيل الثمانينيات ذاكرة لا تنسى من ألبوم الحياة العاطفية لتلك الحقبة، ولهذا عندما حدثت القطيعة والارتداد عن الفنون، مع الانقلاب المشؤوم للبشير – الترابي عام 1989 ( تم قطع الطريق على الديمقراطية والحريات)، كان في ذلك إيذان بشبح توقف الفنون الذي خيّم كالسيف المسلول على رقاب المبدعين والمغنيين.
لكن الغريب، إذا ما حاولنا المقارنة بين تجربة حيدر وتجربة مطرب شاب ظهر في حقبة ما بعد انقلاب الإنقاذ المشؤوم، فملأ الدنيا وشغل الناس (بالرغم من وفاته المبكرة)، المطرب محمود عبد العزيز (الملقب بـ”الحوت”)، لا نعدو القول إن قلنا: إن محموداً وحيدر بورتسودان، يترجمان مزاجاً فنياً لذائقة واحدة.
فمحمود عبد العزيز الذي أصبح فنان الشباب الأول حتى اليوم، كان مثل حيدر تماماً، يغني لذائقته من أغنيات الفنانين الآخرين فيضع فيها بصمة مسجلة باسمه، وهو ذات ما فعله حيدر في الثمانينيات حين غنى لفنانين معاصرين وأحياء (مثل زيدان إبراهيم والهادي الجبل).
اليوم، وإذ لا يزال حيدر في الساحة الغنائية السودانية – التي تكاد تخلو من ناقد موسيقي- إلا في ما ندر جداً، تظل تجربته مشرعةً للمقارنة والتقويم والنقد، بخاصة أن الفنان بورتسودان دخل أخيراً تجربةً جديدة ومثيرة بعض الشيء عبر كتابة بعض أغانيه، مثل أغنية “حبيبة القلب بورتسودان”: المدينة التي حمل اسمها وحملته.
صحيفة السوداني