مقالات متنوعة

زين العابدين صالح عبد الرحمن يكتب: اليسار و الإعلام و مآلات الديمقراطي


يقول الله في سورة الصف ” يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ” صدق الله العظيم و معلوم أن الآيتين توضح غضب الله علي الذن يقولون شيئا و يعملون أو يسلكون سلوكا مخالفا للقول.
و يقول جورج طرابشي في كتابه ” في الثقافة الديمقراطية ” فالديمقراطية لا يمكن أن تكون نظاما فصاميا. فهي لا يمكن أن تكون نظاما للحكم بدون نظاما للمجتمع. و ليس لها أن تسير العلاقات بين الحكام و المحكومين بدون أن تسير العلاقات بين المحكومين أنفسهم”
أن إشكالية الديمقراطية في السودان و في كل الدول التي تفشل في ترسيخها في المجتمع، أن أغلبية الفئة المثقفة في المجتمع لا تكون صادقة في توجهاتها في مسألة التحول الديمقراطي، و خاصة أولئك الذين ينهلون من مرجعيات لها إشكالية مع الديمقراطية، هؤلاء يريدون ديمقراطية شعارات دون نزول مبادئها على الأرض، و تكون مصلحة الحزب و حتى المصالح الخاصة مقدمة على المصلحة الوطنية، و حيث يقرون جميعا أن السودان البلد المتنوع لا يصلح له نظاما للحكم غير الديمقراطية، و رغم ذلك عندما يصلون للسلطة عبر شرعية ثورية، يتنكرون للمباديء الديمقراطية، و يتجهون للسيطرة الكاملة ضاربين باللوائح و القوانين عرض الحائط،، و تبدأ تخرج الشعارات الإقصائية، و لا يتردد كتابهم من كتابة المقالات المؤيدة لذلك و لا يقبلون النقد و يحاولون استخدام الفزاعات بهدف تكميم الأفواه، و عندما ترتخي قبضتهم القابضة علي مفاصل السلطة بفعل مزاحمة قوى أخرى، أو تغيير في توجه الحركة الجماهيرية بفعل الفشل، يعودون دون حياء مرة أخرى ينادون بالتمسك بعملية التحول الديمقراطي.
كانت القناعات السائدة في العقلية اليسارية، و من شايعهم من آهل الهوى، إذا استطاعوا السيطرة على أجهزة الإعلام، يستطيعون و توظيفها لمصلحة شعاراتهم، و أيضا إذا استطاعوا تدوين رؤيتهم في الوثيقة الدستورية، و يستحوذوا علي أغلبية المجلس التشريعي سوف يتم تأسيس البلاد علي رؤيتهم، و ليس علي مطلوبات عملية التحول الديمقراطي، لذلك أختاروا عناصر تمثل قوى الحرية و التغيير في مفاوضاتها مع المجلس العسكري، و هي عناصر تنتمي لمرجعية سياسية ليس لها أي علاقة بالديمقراطية، بل حتى في تجربتها السياسية خارج البلاد التي تنتمي إليها كانت تجربة ضد الديمقراطية ” تجربة الحزب الواحد” و أيضا في ممارستهم السياسية داخل منظومتهم السياسية تشهد انشقاقات بسبب ضيق المواعين الديمقراطية، فكيف يتسنى لهؤلاء أن يصيغوا وثيقة دستورية ديمقراطية. و تأكد بعدهم عن الديمقراطية في القسمة الضيزي في الوثيقة الدستورية أن تأخذ ” قحت” 67% من مقاعد الفترة الانتقالية، و هي النسبة التي ترجح كفة الميزان ” التشريع” أصدار القوانين و تغييرها. إذا كان هؤلاء ديمقراطيون أن الديمقراطية تتطلب مشاركة الجميع داخل المجلس التشريعي، دون أن يكون هناك دعم لأي تكتل أو مجموعة لكي يكون لها الأغلبية، لآن الهدف من المجلس أن يتحول إلي ساحة للصراع السياسي، و ليس صراعا أجوفا بل صراعا فكريا تتعلم من خلاله الجماهير كيف يكون أحترام الرأي الأخر، و تتثقف من خلال الحوار المطروح داخله. و الثاني الوصول لتوافق وطني يضمن صون الديمقراطية، لآن الديمقراطية تحتاج إلي أكبر قاعدة اجتماعية تلتف حولها، و هي لا تقبل أي شعارات تستخدم كفزاعات تمنع البعض ليقولوا رآيتهم أو الخوف من نقد التجربة.
أن القيادات السياسية المطروحة في الساحة السياسية و خاصة اليسارية منها إذا كانت قومية أو ماركسية هي قيادات نفد معينها و نضب خيالها، و لكن تجد أنها متأثرة تأثيرا كبيرا بالإرث السياسي الذي أدمن الفشل منذ الاستقلال، و يجب أن تدرك إنها لن تصلح لقيادة المستقبل، و أجيال جديدة تختلف معها في طريقة التفكير، هؤلاء هم الذين كانوا وراء الفشل المستمر في الفترة الانتقالية، أن العقليات التي أدمنت حياكة المؤامرات و استخدام المناورات بديلا للفعل الإستراتيجي الإيجابي الذي تحتاج له العملية الديمقراطية، هؤلاء سوف يشكلون قوة سالبة في العمل السياسي . أن الذين تربوا علي ثقافة الكارزمة و القائد و اللوائح التي تحد من حرية العضوية لن تكون لهم إسهامات فكرية في تطور العملية الديمقراطية في البلاد. لابد من تغيير أيضا يشمل هذه الأحزاب و الحركات و أن تظهر قيادات جديدة ديمقراطية قولا و فعلا حتى تكون صدورها واسعة لسماع الرآي الأخر، و لها عقليات مفتوحة تتسق مع التحولات في المجتمع.
أيضا كان الاعتقاد عند مجموعات من اليسار؛ إذا استطاعوا السيطرة علي أجهزة الإعلام سوف يقنعوا الجماهير برؤيتهم ذات البعد الواحد، و يستطيعون التأثير علي الشارع من خلال عمل كادرهم في هذه الوسائل، لذلك كان التركيز عليها، و استطاع هؤلاء أن يقيلوا عددا كبيرا من العاملين في أجهزة الإعلام، تحت شعار ” إزالة التمكين و الولاء” و لكنهم للأسف أيضا جاءوا بآهل الولاء، دون فتح الوظائف لعامة الشعب. و يصبح السؤال ما هو الذي تغيير إذا كان ذلك في الأداء أو البرمجة أو حتى في المضمون؟ أن الإدعاء دائما تكشفه الممارسة. و هناك فرق شاسع بين الإعلامي و بين الذي يؤدي وظيفة في الإعلام. ليس كل من يؤدي وظيفة في الأجهزة الإعلامية هو خبير في شؤون الإعلام. الإعلامي هو الذي لديه رؤى و يعرف كيف يستطيع أن يطبيقها داخل المؤسسة الإعلامية و توظيف كل الإمكانيات المتاحة لكي تخرج هذه الرؤية. و هنا أتحدث عن المهنة و ليس الإنتماء السياسي، نطلق علي البروف علي شمو خبير إعلامي لأنه صاحب رؤية ظهرت بصورة واضحة بعد عودته للإذاعة من الولايات المتحدة الإمريكية أن يخرج العمل الإذاعي من دائرة مجال ” BBC” و يقدم لها شخصية اعتبارية خاصة و أيضا استطاع أن يؤسس التلفزيون علي المهنية. و هناك محمود أبو العزائم خبير إعلامي ظهرت رؤيته من خلال ” إذاعة صوت الإمة” حيث منحها شخصية تختلف عن الإذاعة الأم ” إذاعة أمدرمان” و صلاح الدين الفاضل أيضا خبير إعلامي لأنه استطاع أن يجعل الميكرفون في أيادي المستمعين أكثر من الاستديو و خاصة في برامج الصباح و استطاع أيضا أن يتخلص من الموسيقي كؤثر صوتي وحيد إلي اللجوء لمؤثرات طبيعية يأخذها من الشارع عند خروج الميكرفون. و حمدي بدر الدين في التلفزيون حيث حول البرامج الغنائية إلي برامج ثقافية غنائية، و حتى في الإنقاذ هناك الإعلاميين الذين برزت بصماتهم واضحة في قناة النيل الأزرق الثنائي حسن فضل المولى و الشفيع عبد العزيز الذان استطاعا أن يجعلا للقناة شخصية اعتبارية بعيدا عن زحمة السياسية و حتى البرامج السياسية فيها جاءت محمولة علي أكتاف الثقافة. و هناك أيضا الطاهر حسن التوم و قناة ” سودانية 24″ أن يجعل لها نكهة خاصة وسط وسائل الإعلام. فالعمل الإعلامي لكي يتغير لابد أن تكون هناك رؤية واضحة لدى القائمين عليه، و هذه الرؤية يجب أن لا تكون متناقضة أي أن يتطابق الفعل مع القول، فالتغيير ليس تغيير وجوه، و لا أن تجعل الضيوف يمثلون تيارا فكريا واحدا، بل لابد أن تظهر الديمقراطية حتى في اختيار الضيوف و تنوعهم.
أن الأداء الإعلامي لماذا لم يتغير. لأنه ذهب في ذات الاتجاه الذي كان في عهد الإنقاذ أن تنتظر رؤية السلطة، و تبني عليها التصورات البرامجية، كان المأمل أن تتحرر الأجهزة من عقلية الوصاية و الإدعاء، و أن يصبح أداءها و برامجها في حالة تكيف مع شعارات الحرية و الديمقراطية، عندما تتحدث عن الحوار الوطني يجب أن يشمل الوطن كله ليس فقط استضافة السلطة القائمة برموزها إذا كانوا يشغلون وظائف دستورية أو أن أحزابهم حركاتهم تشارك في السلطة، لكن البرامج لا تتيح أي فرصة لأصحاب رآي مخالف أو لديهم طريق ثالث، فالديمقراطية و التطور يحدثان بتلاقح الأفكار و حوارها و ليس بالإقصاء. الإعلام يجب أن يحمل راية المبادرة و يكسر كل الحواجز بهدف ترسيخ عرى الحرية و الديمقراطية في المجتمع، و أن لا يكون بوقا خاصا للحكومة، فالديمقراطية حكومة و معارضة، و إذا كان خائفا من شعارات الإقصاء المطلوقة في الشارع هي جميعها شعارات لأحزاب لا تؤمن بالديمقراطية كنظام سياسي إلا من باب المناورة. الغريب أيضا أن تقدم قناة مدير البرامج فيها كداعية سياسي يستضيفه أيضا في ذات القناة داعية سياسي أخر لكي يتحدث في شأن سياسي، هذه يجب أن تسجل في موسوعة غنيس. لأنها ظاهرة جديدة أن يتحدث مدير برامج تلفزيوني عن رؤيته السياسة الحزبية في جهاز حكومي. حيث يمنع القانون العاملين بالعمل السياسي داخل المؤسسة.
المسألة التي يجب التأكيد عليها؛ أن الديمقراطية لا يمكن أن تصبح نظاما سياسيا راسخا في مجتمع إذا لم يصل آهل البلد لتوافق سياسي يكون مقبولا للجميع، و أن الديمقراطية لا تقبل فرض الشروط المسبقة، و لكنها تقبل الحوار المستمر بين تيارات الفكر المختلفة، أن الديمقراطي لا تقبل التناقض في القول كما يظهر الآن بصورة جلية في الاسهامات لكتاب مؤدلجيين يتحدثون عن ضرورة العمل من أجل التحول الديمقراطي و في ذات الوقت يرفضون الحوار المجتمعي. كيف يستطيع آهل اليسار الخروج من دائرة التناقضات، و كيف يستطيعون إجراء مراجعات تؤكد علي مسألة الحرية و الديمقراطية و أن تطبق في أحزابهم أولا. نسأل الله حسن البصيرة.

صحيفة الانتباهة