محمد عبد الماجد

محمد عبد الماجد يكتب: الكوباني الذي لا أعرف

(1)
في رمضان الماضي في مثل هذه الايام، كنت اهاتف بعد الافطار مباشرة مولانا عبدالفتاح البشير فحل وهو يتجول بين المحاكم والنيابات في الفاشر والابيض وكادوقلي في ظل الاغلاق التام الذي كانت تفرضه جائحة كورونا على البلاد.
كان عبدالفتاح طفلاً كبيراً – صاحب هدوء دائم وتفكير مستمر – يخفي تأملاته تلك تواضعاً منه.
كان يحكي عن العودة في العيد وعن مدينة شندي وهو يجهز (الهدايا) التي اعتاد على توزيعها للأهل والأصحاب عند العودة الى مدينة شندي.
في 23 رمضان الماضي تعرضت العربة التي كانت تنقلهم من الفاشر مع زملاء له لحادث حركة، فارق بسببه الحياة مع ثلاثة قضاة اخرين كانوا معه في نفس العربة في طريقهم للخرطوم.
مات عبدالفتاح في تلك الايام المباركة … وفتحوا حقيبته بعد ذلك ليجدوا فيها عدداً كبيراً من (الاكياس) باسماء مختلفة كان يحملها (هدايا) لأهله وأصحابه في شندي.
بعض الاكياس كان فيها (ملابس) والبعض الاخر كان فيها (احذية) – وبعض من الالعاب والحلوى لطفلتيه التي لم تتجاوز اكبرهما سناً الخامسة.
من ذلك اليوم جعلت في قلبي (حجرة) خاصة للأحزان – فيها شيء من ذكريات الذين رحلوا من حياتنا المترجم الصحفي أنس فضل المولى والزميل الصحفي محمد شريف مزمل.
لقد رحلوا بعد ان تركوا (فجوة) كبيرة في حياتنا – لا يمكن ان تملأ إلّا بذكرياتهم الجميلة.
(2)
عبدالرحيم صالح محمد خير (شورة)، احد كبار الموظفين في بنك العمال وقبله البنك السعودي وبنك الاعتماد – كان عبارة عن (آلة حسابة)، حاضر ببديهته وحساباته الدقيقة التي لم تفقده (طرفته)، وحكاويه التي كان يرويها فيمتعك بها مثل (مزمار) الراعي في (عصراوية) صيفية او في رواية قديمة.
شورة كان بذلك النشاط والحيوية – يناقشك في كل شيء – حتى في هذا الذي نكتبه.
حاضراً كان باناقة ظاهرة وبخفة دم (الحلفاويين) الساخرين والاذكياء.
عبدالرحيم شورة عاد ذات يوم من بنك العمال عصراً فصدمته (هايس) وهو قريب من منزله بالخرطوم 2.
مكث في العناية المركزة اكثر من اسبوع ثم غادر الحياة.
الآن اشعر ان شوارع الخرطوم 2 والخرطوم 3 وحديقة القرشي وشارع كترينا لا تعرف شيئاً غير ان تنتحب.
احس بوجع تلك الشوارع وألحظ ذلك في عيون العابرين – فقد كان (مسرحاً) متجولاً للفرح والفكاهة والثقافة والنقاء.
(3)
قبل ايام استوقفنا نواح مواقع التواصل الاجتماعي وهي تعلن عن حالة الدكتور علي الكوباني وعن وضعيته الخطرة.. وتسأل الله له الصحة والعافية والشفاء في دعاء عام كان كل الشعب السوداني شريكاً فيه.
الشعب السوداني لم يتوحد على شيء في الفترة الاخيرة إلّا على (البكاء) عليه.
لا اريد ان اقول اني تحسست (وجعي) وتفقدت (حزني) خوفاً على الكوباني وشعرت بان رحيله يقترب – لذلك عفت مواقع التواصل الاجتماعي وتحاشيتها خشية ان توجعني اكثر بخبر رحيله.
امس كعادة الاحزان تفاجأت بخبر رحيل الدكتور والشاعر والاديب والثائر علي الكوباني.
فتحت كل نوافذ الفؤاد (حجرات) للحزن والوجع.
تشاركت كل الصفحات والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي على نعي الدكتور علي الكوباني والسؤال له بالرحمة والمغفرة.
وجدت مواقع التواصل تصير دار عزاء كبير – على رجل احبه الناس … وشاركهم هو في كل تفاصيلهم دون حتى ان يلتقي بهم.
لا اعرف الكوباني معرفة شخصية ولم يجمعني لقاء به – لكني اعرفه كشخصية (عامة) وهو الطبيب المتخصص في اصعب مجالات الطب وهو الشاعر والاديب.. وهو (الثائر) الذي كانت لمنشوراته وكتابته حتى وهو في فراش المرض دور عظيم في نجاح الثورة وفي تعزيز قيمة الصمود والثبات.
كنت اتابع منشوراته عن الثورة – بفرح يجعل الانتصار يطرق باب البيت– كان منه ذلك قبل سقوط النظام وهو يناضل بفنه وكلمته ومواقفه.
دون كل ذلك – ادهشني في الكوباني …(انسانيته) – فهو انسان قد اجتمع الناس على حبه.
كان صاحب ابتسامة دائمة – لا تفارقه حتى وهو في قمة المعاناة من المرض – كان مبتهلاً ومانحاً للحياة والامل، متدفقاً بحب الناس.
اللهم نسألك له الرحمة والمغفرة وان تجعل قبره روضة من رياض الجنة وهو يرتقي للرفيق الاعلى في هذه الايام المباركة، بعد معاناة طويلة مع المرض الذي كان فيه صابراً ومحتسباً وقوياً ومبتسماً. اللهم ارحم اموات المسلمين جميعاً… ولا حول ولا قوة إلّا بالله.

صحيفة الانتباهة