مقالات متنوعة

عبرة الدرس الفرنسي في تشاد


(1)
لم تترك فرنسا مجالاً للتحليلات ولا للتكهنات بشأن دورها الحاسم في السيناريو التشادي، فقد فعلت كل شي بوضوح تام لتؤكد حقيقة كونها الممسكة بكل الخيوط في رسم سيناريو وإخراج مشهد إعادة ترتيب لعبة السلطة في إنجمينا بعد غياب، أو لعله بالأحرى تغييب مارشال تشاد إدريس دبي أتنو، لحاجة في نفس من دبر واستدرجه ليلقى حتفه قتيلا في ملابسات لا تزال محاطة بالغموض، قبيل احتفاله بولاية رئاسية سادسة إثر انتخابات شكلية ليست بدعاً عن مثيلاتها في الشموليات التقليدية، كما لم تكن هناك مفاجئة أن تقود طموحاته للبقاء سعيا لخلود مستحيل في السلطة بعد ثلاثة عقود في دست الحكم إلى صعود معارضة مدنية مؤثرة ومسلحة قوية أعادت المستعمرة الفرنسية السابقة، ومحميتها الحالية، إلى الوقوف مجدداً على حافة الوضوع في براثن الفوضى، وتهديد معادلات المصالح الفرنسية الاستراتيجية البالغة الحيوية في قلب القارة الإفريقية.
(2)
لم تدع قضية ضمان استدامة السيطرة الفرنسية على تشاد، بكل حساباتها الأمنية والجيوساسية، ومخاطر انفلاتها من فلكها في ظل أوضاع بالغة الحساسية والتعقيد أية فرصة أمام عاصمة النور لترف التظاهر بالحرص على الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم المدني وهلم جرا من الكليشيهات التي عادة ما تستخدمها العواصم الغربية لإلقاء الدروس في مواجهة أي انقلاب عسكري، وهو على أية حال موقف مظهري سرعان ما تفضحه ضرورات خدمة أجندتها الحقيقة لحماية مصالحها، فقد كان الخيار محسوباً لباريس التي لم تهدر وقتاً في التنديد بالانقلاب العسكري كامل الدسم الذي أعقب الإعلان عن مصرع دبي، وهو الخارج كلية على الترتيبات المنصوص عليها دستوريا لانتقال السلطة عند وفاة الرئيس، فقد كان لسانها مبيناً في دعم استيلاء العسكر على السلطة “مات المارشال عاش ابنه الجنرال”، وبكت فرنسا الرسمية شرطيها في المنطقة مارشال تشاد معدّدة مآثره وفضاله ودوره حتى يكاد المرء يظن أنها تتحدث عن شخصية أخرى يُنسب لها فضل ترسيخ الديمقراطية والحكم المدني في هذا الجزء من العالم المنكوب بالأنظمة العسكرية المتسلطة، ولم يخف الإليزيه والكي دورسيه في بياني نعيهما لدبي من تكرار أن آية ملك إدريس ومقامه عندها كان دوره في “حفظ الأمن والاستقرار” في منطقة السهل الإفريقي، باختصار كان تأبيناً للدور الذي لعبه لحين بامتياز في الحرب الفرنسية على الجماعات المتشددة في حديقتها الخلفية.
(3)
ولم يقف الأمر عن هذا الحد فقد طار سيد الإليزيه بنفسه إلى إنجمينا، مع ما يُفترض أنها محاطة بالمخاطر، لا ليودع مارشال تشاد في رحلته الأخيرة، بل ليعيد التأكيد على مرتكزات الموقف الفرنسي القائم في جوهره على أولوية الحفاظ على نفوذها الحاسم في تشاد، متوعداً من المساس به، وفي دول المنطقة كبيادق لخدمة أمن فرنسا ومصالحها الاستراتيجية، وهذا دور لا يصلح للقيام به ولا يُؤتمن له إلا العسكر، لذلك فإن الانقلاب العسكري وترتيباته لم تكن وليدة صدفة طارئة فرضها غياب مفاجئ لدبي الأب، ولا مجرد مغامرة طائشة للجنرال الشاب محمد كاكا، فالسرعة والسلاسة التي تم بها الأمر لا تدع مجالاً لأية تكهنات سوى أنه سيناريو نُسج بتدبير محكم، ونّفذ بإجراءات مرتبة بدقة لدرجة استخدام عنصر جديد في لعبة السلطة الإفريقية بتدشين عصر الانقلابات العسكرية بالوراثة، وهي دلالة على أن تدبير التغيير الذي اقتضى تغييب إدريس دبي ربما فرضه تحوله إلى عبء وقد استطال بقاؤه، كان يدرك الحاجة للمحافظة على توازنات معادلة السلطة الراهنة في تشاد المنسوجة على معطيات عشائرية دقيقة حتّمت توريث الإبن في مفارقة ليست للتدابير الدستورية فحسب بل كذلك للتراتبية العسكرية, وهو ما يرّجح أن السيناريو التشادي ليست لعبة انتقال سلطة محلية الصنع.
(4)
والعبرة بوضوح من الدرس الفرنسي في تشاد أن مواقف الدول الغربية لا تقبل عندها المساومة ولا القسمة على اثنين عندما يتعلق الأمر بضرورات تحقيق مصالحها الاستراتيجية والأمنية، وقد أثبتت التجارب أن الأنظمة العسكرية هي وحدها المؤهل للعب هذه الدور، وهي مهمة تعرف جيداً أن الحكم المدني لا يصلح لها، ولا يملك أدوات القيام بها ولو أراد، ولذلك تفضل عواصم القرار عادة تعزيز دور وسلطة العسكريين، ولكن لا بأس من الحديث الشكلي المموج عن دعم الحكم المدني، والديمقراطية وحقوق الإنسان وبقية هذه الكليشيهات التي لا تعدو أن تكون مجرد لغو حديث وذراً للرماد في العيون، لا يتعد في أحسن الأحوال تزيين الحكم العسكري بمظاهر مدنية منزوعة الدسم، لا يتعدى سقفه مهمة خيال المآتة.
والحال من بعضه، ومن لا يزال غارقاً هنا في الأوهام فليبل رأسه، فالنموذج الفرنسي في تشاد أفصح عبرة “كدة بالواضح ما بالدس”!!

خالد التيجاني
صحيفة السوداني