استشارات و فتاوي

القول بإخراج زكاة الفطر نقدا قولٌ معتبرٌ والخلاف فيه قديم


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على رسول الله الأمين وآله وصحبه أجمعين أما بعد، فهذا بحث مختصر أردت أن *أبين فيه أن القول بإخراج زكاة الفطر نقدا قولٌ معتبرٌ والخلاف فيه قديم* فحرصت على ذكر العلماء والأئمة الأعلام الذين قالوا به، أو نسب إليهم القول به( *مع الإقرار بأن الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة اشترطوا بأن تخرج عينا* ).
🔶 فمما شرعه الله تعالى وبينه رسول الله ﷺ إخراج زكاة الفطر؛ لكفاية الفقراء وإغنائهم عن السؤال يوم العيد. والأصل في ذلك ما جاء في الصحيحين: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ (وكان الشعير يومذاك من طعامهم). وماجاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعاً مِنْ طَعَامٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالأَقِطُ وَالتَّمْرُ. ومن ثَمَّ فقد جرى العمل عند الفقهاء على إخراجها من قوت أهل البلد لحصول منفعة الفقراء بذلك. فقال الإمام الشافعي في الأم (2/‏‏75): «(باب الرجل يختلف قوته): وَإِنْ اقْتَاتَ قَوْمٌ ذُرَةً، أَوْ دُخْناً، أَوْ سُلْتاً أَوْ أُرْزاً، أَوْ أَيَّ حَبَّةٍ مَا كَانَتْ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَهُمْ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْهَا».
🔶 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _ في مجموع الفتاوى (25/‏‏68): «وَالنَّبِيُّ ﷺ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ قُوتَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا لَيْسَ قُوتَهُمْ بَلْ يَقْتَاتُونَ غَيْرَهُ لَمْ يُكَلِّفْهُمْ أَنْ يُخْرِجُوا مِمَّا لَا يَقْتَاتُونَهُ، كَمَا لَمْ يَأْمُر اللَّهُ بِذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ».
🔶 والمتأمل في حديث رسول الله ﷺ في إخراج أعيان الزكاة، وما جرى عليه العمل عند الفقهاء من إخراجها من قوت أهل البلد، يلمح في ذلك مقصداً شرعياً مهماً، وهو تحقيق إغناء الفقراء والمساكين بما يتناسب مع حاجتهم بحسب الزمان، ومما يبين ذلك قوله ﷺ«أغنوهم في هذا اليوم». وفي رواية: «أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم». أخرجه البيهقي وابن عدي والدارقطني و الحاكم في المستدرك و ابن زنجويه و ابن سعد في الطبقات، قال العلامة ابن باز رحمه الله:( وإن كانت روايةً ضعيفةً لكن هذا هو المعنى؛ أن الله جلَّ وعلا جعل هذه الزكاة طُعمة لهم في أيام العيد حتى تسدّهم وتكفيهم عن الطَّواف على الناس والحاجة في أيام العيد.)،انتهى كلامه رحمه الله ،_مع اعتبار أنه لا يرى إخراج القيمة _.
🔶 ولم يرد في حديث أعيان زكاة الفطر ما يفيد المنع من إخراجها من غير تلك الأعيان، وهذا ما فهمه الصحابة، حيث إنهم أجازوا إخراج القمح عن الشعير والتمر. بل ورد ما هو أوسع من ذلك، مما يتفق وهذا المقصد الشرعي الجليل، وهو الرخصة في إخراج القيمة والنقد عوضاً عن الأعيان؛
فقد روى البخاري _ رحمه الله _ في صحيحه معلقاً: (باب العرض في الزكاة)
وقال طاوس _ رحمه الله _: قال معاذ، رضي الله عنه، لأهل اليمن ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي ﷺ بالمدينة.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله _ في فتح الباري (3/‏‏312): «قال ابن رشد رحمه الله : وافق البخاري _ رحمه الله _ في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم، لكن قاده إلى ذلك الدليل».
أقول : وإن كان الإمام البخاري رحمه الله أورد الأثر في الزكاة عموما فما هو وجه التفريق بين عموم الزكاة في الحبوب والثمار و الأنعام، وبين زكاة الفطر ؟!، فلئن جاز في الزكاة و هي ركن من أركان الإسلام و هي الأعلى جاز في زكاة الفطر و هي الأدنى.
وقال الإمام البدر العيني _ رحمه الله _ في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (9/‏‏8): «اعلم أن الأصل في هذا الباب أن دفع القيمة في الزكاة جائز عندنا، وكذا في الكفارة وصدقة الفطر والعشر والخراج والنذر، وهو قول عمر ،وابنه عبدالله ،وابن مسعود، وابن عباس، ومعاذ، رضي الله عنهم أجمعين و به قال طاووس. وقال الثوري: ( يجوز إخراج العروض في الزكاة إذا كانت بقيمتها)، وهو مذهب البخاري، وإحدى الروايتين عن أحمد.
ولو أعطى عرضا عن ذهب وفضة، قال أشهب: يجزيه.
وقال الطرطوشي: هذا قول بين في جواز إخراج القيم في الزكاة.. وأجاز ابن حبيب دفع القيمة إذا رآه أحسن للمساكين».
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه -باب إخراج الدراهم في زكاة الفطر- قال: حدثنا أبو أسامة،عن عوف، قال: سمعت كتاب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بالبصرة: (يؤخذ من أهل الديوان من أعطياتهم، عن كل إنسان نصف درهم) يعني زكاة الفطر. حدثنا وكيع عن قرة قال: جاءنا كتاب عمر بن عبدالعزيز في زكاة الفطر: (نصف صاع عن كل إنسان أو قيمته: نصف درهم) لا بأس أن تعطي الدراهم في صدقة الفطر. وهذا القول قول الإمام الأوزاعي وبه قال
جماعة من المالكية، كابن حبيب، وأصبغ ، وابن أبي حازم ، وابن دينار ، وابن وهب ، والصاوي .
وفي شرح الرسالة لابن ناجي قول لأشهب و ابن القاسم بأن إخراج القيمة مطلقا جائز _رحمهم الله جميعا
و به قال الإمام شمس الدين الرملي رحمه الله من أئمة الشافعية،
و هو مذهب أبي حنيفة ( _ بل قال السادة الحنفية دفع القيمة أفضل من دفع العين (الدر المختار بحاشية ابن عابدين ج ٢ ص٧٧ _٧٨ )
و هو قول أبي إسحق السبيعي، و الثوري و قال به الحسن البصري، و عطاء و عمر بن عبدالعزيز رحمهم الله تعالى جميعا
و ممن يرى جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر لعذر أو لضرورة إسحق بن راهويه ، و أبو ثور، و ابن تيمية ورجحه في الاختيارات،
فقد جاء في اختيارات ابن تيمية لبرهان الدين ابن القيم (138) ما نصه: وأنه يجوز إخراج القيمة في زكاة المال وزكاة الفطر. ا.هـ، ومما يقوي ذلك أن ابن تيمية يرى جواز إخراج نصف الصاع في القمح. الاختيارات الفقهية ص: (183) وهذا يدل على اعتبار القيمة عنده، وهو بهذا يوافق الأحناف في هذه المسألة بالذات. بدائع الصنائع (2/72).
وقد نص في مجموع الفتاوى: (وَأَمَّا إخْرَاجُ الْقِيمَةِ لِلْحَاجَةِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ الْعَدْلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ.) مجموع الفتاوى 25/83 . و قد نص رحمه الله تعالى في المجموع على أنه رواية عن أحمد، _رحمهم الله جميعا _
و قد بوب إبن أبي شيبة رحمه الله _ باب في إعطاء الدراهم في زكاة الفطر ،و أورد فيه بسنده قول أبي إسحق السبيعي رحمه الله( أدركتهم وهم يعطون في صدقة الفطر الدراهم بقيمة الطعام)
و أبو إسحاق السبيعي من أئمة التابعين وقد أدرك عليا و كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فقوله ( أدركتهم ) أي الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين
و هذا قول جماعة وافرة من العلماء المعاصرين في العالم الإسلامي، وعليه فتوى أكثر المجامع الفقهية الإسلامية، و دور الإفتاء، ولجان الفتوي و مخرجات المؤتمرات والندوات العالمية في العالم الإسلامي ، وعليه العمل في أكثر البلاد الإسلامية.
وقد ذكر الإمام النووي حجة أصحاب هذا القول، فقال في المجموع (5/‏‏429): «واحتج المجوزون للقيمة بأن معاذاً رضي الله عنه قال لأهل اليمن حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ زكاتهم وغيرها: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة جزم، وبالحديث الصحيح: في خمس وعشرين بنت مخاض، فإن لم تكن فابن لبون. قالوا: وهذا نص على دفع القيمة. قالوا: ولأنه مال زكوي فجازت قيمته كعروض التجارة، ولأن القيمة مال فأشبهت المنصوص عليه، ولأنه لما جاز العدول عن العين إلى الجنس بالإجماع بأن يخرج زكاة غنمه من غنم غيرها، جاز العدول من جنس إلى جنس، المقصد هو أن يشعر الفقير بفرحة العيد مثل الغني، والفقير اليوم يحتاج أن يشتري متاعه و لأولاده كسوة العيد، ولا يصح فيها اليوم غير المال، وقد روى البخاري في صحيحه أن النَّبِيُّ ﷺ قال للنساء يوم عيد الفطر: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» قال البخاري:” فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا”.
🔶 و بالنظر إلى القياس ،فقول النبي ﷺ لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: (خذ الحَبَّ من الحَبِّ، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر) وهو صريح في دفع الأعيان، لكن معاذاً رضي الله عنه فهم قصد الزكاة، ولم يتعامل مع النص على أنه تعبدي غير معلل فقال لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس {أنواع من الأقمشة} في الصدقة مكان الشعير والذرة؛ فإنه أهون عليكم وأنفع لمن بالمدينة، وقد أقرَّه النبي ﷺ على ذلك، وأكرر (لئن جاز في الزكاة وهى الأعلى جاز من باب أولى في زكاة الفطر وهي الأدني).
🔶 وبالنظر إلى مقاصد الشريعة الإسلامية في زكاة الفطر لمقصد منصوص عليه في الحديث الصحيح وهو: طهرة للصائم من الرفث واللغو، وطعمة للفقراء والمساكين، وفي الحديث الضعيف على الأرجح: اغنوهم عن ذل السؤال في هذا اليوم. رواه البيهقي وابن عدي و الدارقطني والحاكم وابن زنجويه و ابن سعد في الطبقات، وأكرر قول العلامة ابن باز رحمه الله( وإن كانت روايةً ضعيفةً لكن هذا هو المعنى؛ أن الله جلَّ وعلا جعل هذه الزكاة طُعمة لهم في أيام العيد حتى تسدّهم وتكفيهم عن الطَّواف على الناس والحاجة في أيام العيد ). انتهى كلامه رحمه الله مع اعتبار أنه لا يرى إخراج القيمة، فالمقصد هو أن يشعر الفقير بفرحة العيد مثل الغني، وكم رأينا المساكين يبيعون الحبوب لنفس التجار الذين اشترى منهم الأغنياء تلك الأصناف بثمن أقل، فهل شرعت زكاة الفطر لإغناء التجار على حساب الفقراء، وإضاعة وقت الفقير في عملية التبادل والمقايضة؟ وبوسع الفقير أن يشتري حبوبا بالمال دون خسارة، ولا يسعه أن يحصل على المال إن أخذ حبوبا إلا بالخسارة.
🔶 *ملاحظة*
نجد أن الرافضين لدفع القيمة يلجؤون لتقصيد العبادة فلا يلتزمون بالأصناف الواردة في الحديث، ويقولون بإخراجها من غالب قوت البلد، وهو إقرار بالتعليل والتقصيد، وهو أساس ودليل دفع القيمة، غير أننا قلنا بالخروج عن الأصناف الواردة في الحديث إلى المال، وهم قالوا بالخروج عنها إلى غالب طعام أهل البلد.
🔶 *مما تقدم ذكره ونقله، تبين لنا أن الخلاف معتبر جدا وقديم ويسعنا ما وسع أسلافنا رحمهم الله تعالى جميعا*
*والذي يترجح عندي جواز إخراج القيمة (ومنها النقد) في الزكاة*
وما يحسن ذكره هنا، فإن *فضيلة الشيخ عبدالله المطلق، عضو هيئة كبار العلماء، والمستشار بالديوان الملكي* *بالمملكة العربية السعودية* ، صرح في أكثر من موضع أنه بدأ يميل إلى النظر في قول من ذهب إلى جواز إخراج زكاة الفطر نقداً، وسبب ذلك ما بلغه من أن الفقراء يأخذون الزكاة ثم يبيعونها للتجار بأقل من ثمنها بفارق كبير، في صورة قريبة من بيع العينة، حرصاً منهم على المال الذي يحصل به غناهم وكفايتهم، وذكر الشيخ _ حفظه الله تعالى _ أن القول بإخراجها نقداً قولٌ يُحترم، لاسيما وهو قول جماعة من كبار التابعين والفقهاء، وقول لجان الفتوى في العالم الإسلامي،
وبه يقول *الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة*، وكذلك يفتي به *الشيخ قيس المبارك، عضو هيئة كبار العلماء سابقاً*، حيث قال: «ويحسن إخراج زكاة الفطر نقداً فهذا أنفع للفقير».
*وقال فضيلة الشيخ خالد بن عبدالله المصلح*: (،،،،وأما من قال بجواز إخراج زكاة الفطر نقداً، فقال إن المقصود منها إغناء الفقير يوم العيد، وحصول الإغناء بالنقود قد يكون أبلغ. وأما من ذهب إلى الجواز عند الحاجة أو المصلحة فقالوا: إن الأصل إخراج زكاة الفطر طعاماً، لكن يمكن أن يخرج عن هذا الأصل إذا كان في إخراجها نقداً مصلحة أو دفع حاجة. واستدلوا لذلك بعدة شواهد منها ما رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم من أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال لأهل اليمن حين بعثه رسول الله ﷺ إليهم: “ائتوني بعرض ثياب خميس، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير، والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي ﷺ بالمدينة”. ومما يلتحق بالمصلحة والحاجة المجيزة لإخراج النقد مكان الطعام في زكاة الفطر، إذا كان يترتب على إخراجها طعاماً مشقة، فالمشقة ” منتفية في هذه الشريعة، *وهذا القول وهو جواز إخراج زكاة الفطر نقداً عند الحاجة أو المصلحة أقرب هذه الأقوال إلى الصواب؛ لما فيه من الجمع بين الأدلة، وتحقيق المصلحة ودفع المشقة، والله أعلم*.)
هذا، و الله أعلم وصلى الله على نبينا و سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
*كتبه د/محمد الأمين إسماعيل*
*عميد كلية القرآن الكريم بجامعة أفريقيا العالمية وعضو مجمع الفقه الإسلامي السوداني*


تعليق واحد