محمد جميل أحمد يكتب كيف نفهم خطورة الثورة المضادة في شرق السودان؟
الاستثمار السياسوي الخبيث لعقيدة الأرض ونظام العصبية أسلوب خطير في الفضاء العام
قراءة واقع الحال السياسوي في شرق السودان، اليوم، بحسب طبيعة هذا الإقليم وتركيبته السكانية، والإهمال الذي لقيه من الحكومات المتعاقبة، من ناحية، والانتظام الخبيث الذي أسلك فيه نظام البشير قبائل البجا والشرق في منظومة تسييس الإدارة الأهلية، من ناحية ثانية، ستحيلنا إلى توقع احتمالات غامضة وخطيرة لطبيعة التحولات السياسوية التي يمكن أن تحدث في واقع ما بعد الثورة، وفق تلك الصيرورة التي آل إليها وضع الإقليم.
وتكمن خطورة ذلك التسييس القبائلي الذي صممه نظام البشير لثلاثين عاماً، أنه وجد في شرق السودان بيئةً مثاليةً بين قبائل البجا، عززت لديهم عقيدة قديمة ظلت من صميم وعيهم بالوجود كجماعة تاريخية عريقة عاشت لآلاف السنين في عزلة اختيارية. تلك العقيدة مفادها أن رؤية الشخص البجاوي (ولا سيما في مجموعة البداويت من البجا) لمفهوم الأرض، هي عقيدة أقرب لأن تكون قناعةً شبه مقدسة بحيث تجعل من وعي الفرد البجاوي بخصوصية امتلاكه للأرض وحيازته لها خصوصية حساسة وغير قابلة للتفاوض أو المساومة عليها إلا بالرضا
بطبيعة الحال، إن هذه الإشكالية (التي تخلق تشويشاً في فهم معنى الوطن يصل إلى درجة التناقض، بحسب المصطلح الحديث لمفهوم الوطن) ستظل باستمرار إشكالية قائمة في قلب تلك العقيدة لمفهوم الأرض عند البجا، لا سيما في ظل شروط تخلف وعصبية ونمط حياة فريد من نوعه. بالتالي، فإن المساحة السائبة التي تختلط فيها هوية الوطن الحديثة والمعرفة بالحدود السيادية والسياسية، ستنعكس كتناقضات وألغاز في ذهنية الفرد البجاوي (في غياب التنمية والتعليم) بحيث يستقر في وعيه، أن كل من يعيش معه في أرضه التاريخية من غير البجا هو مجرد “ضيف”، ولو كان مواطناً سودانياً أو حتى سودانياً بجاوياً من مجموعة أخرى، وتظل هذه القناعة بينه وبين نفسه ثابتة بطريقة لا شعورية.
في الحقيقة، إن ذلك هو الحصاد المر لإهمال الحكومات المتعاقبة لمجموعة البجا (وهو إهمال ورثته الحكومات الوطنية السودانية عن الاستعمار الإنجليزي الذي كرس ذلك الإهمال المتعمد للبجا انتقاماً منه للهزيمة التي ألحقها البجا به في وقائع عديدة أيام الثورة المهدية وبعدها). لذلك، سيبدو اليوم في تقديرنا جزءاً من المشكلة السياسوية للبجا. وهي مشكلة ستواجه الثورة والدولة السودانيتين، من خلال المأزق الذي يكرسه ذلك المفهوم القبلي القديم وشبه المقدس لعقيدة امتلاك الأرض، وفي كونها عقيدة لها حساسية عالية وقابلة للاستثمار السياسوي السهل من قبل مغامرين سياسويين من بعض زعماء القبائل البجاوية الذين أوهمهم نظام عمر البشير بأن السياسية جزء من فضائهم القبائلي!
انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً
إلى جانب خصائص أخرى يتميز بها البجا (مثل العصبية الشديدة المانعة من رؤية الفرز بين الخطأ والصواب وبين الفساد والصلاح في السلوك السياسي مثلاً لأي فرد من أفراد القبيلة، ما دام ذلك الفرد جزءاً منها، على طريقة انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، سيكون ذلك الاستثمار السياسوي الخبيث لعقيدة الأرض ونظام العصبية أسلوباً خطيراً في الفضاء العام، بحيث يمكن أن يكون ذلك التوظيف الذي يستغل عقيدة الأرض والعصبية عند البجا عائقاً حقيقياً أمام قيم الثورة ومفاهيم الدولة السودانية التي تقوم على الدستور والمواطنة والمؤسسات والقوانين عبر شعاراتها الثلاثة حرية وسىلام وعدالة، ذلك أن التماهي والقابلية المطلقة لإطاعة البجا لزعمائهم القبليين تمثل في هذا الوضع نموذجاً ممتازاً للاستغلال السياسوي في ظل شروط الإهمال المتعاقب الذي لحق بالبجا من قبل الحكومات المديدة.
ولأن من طبيعة الوعي المفكك (كالوعي الذي يضمر تشويشاً إلى درجة التناقض في الخلط بين المفهوم القبلي شبه المقدس للأرض، وفكرة الوطن) يعتبر في تقديرنا وعياً خطيراً، فإن الدعاوى التي تضخها خطابات السياسويين والمغامرين من بعض زعماء القبائل البجاوية لاستثارة تلك العقيدة في نفوس العوام من البجا، من أجل تحقيق مكاسب سياسية (كما جرى في الندوة التي عقدها ما يسمى “المجلس الأعلى لنظارات البجا” في نادي البجا في مدينة بورتسودان) تنطوي على خطورة كبيرة.
فمن ناحية، إذ يعبر ذلك الوعي عن عقيدة مجردة لحيازة الأرض، فإنه بطبيعة الحال لن يعكس أي إدراك لحرمة الوطن، وعلاقة المواطنة في كونها علاقة تجمع السودانيين الذين يعيشون داخل الحدود السيادية والسياسية للسودان على قدم المساواة. بالتالي، فإن استثارة تلك العقيدة شبه المقدسة التي يضمرها البجا حول حيازة الأرض في إطار من العصبية القبائلية ستكون بمثابة قناعة مضللة ضد وحدة الدولة السودانية.
ذلك أن من خصائص العقائد القبائلية المجردة، هي أنها لا تاريخية، أي إنه ليس لها القدرة على رؤية الأسباب ضمن إطار الوعي الموضوعي للتفكير، وربط علاقة الأحداث بمسبباتها، لأن العصبية تمنع العقل عن رؤية حقائق الأشياء. ومن ثم، ففي ظل شروط إهمال خطير ومتعمد من قبل الدولة السودانية ما بعد الاستقلال، كالإهمال كالذي عاشه البجا في بواديهم لعقود طويلة، يمكن لتلك الدعاوى السياسوية عبر استثمار نظام تسييس القبائل الذي كرسه نظام البشير لثلاثين سنة؛ أن تلعب دوراً معرقلاً، وتصبح طاقة مدمرة للنسيج الاجتماعي وخطراً مفتوحاً على احتمالات راجحة لحرب أهلية في الإقليم الشرقي، لا سمح الله.
هكذا، يمكننا اليوم أن نكون أكثر انتباهاً واكتراثاً للخطابات الانعزالية التي تضخها في شرق السودان بعض الجماعات السياسوية التي تستخدم القبيلة وأعرافها في أتون صراع سياسي بلا أفق؛ لأن قابليات الاستجابة الكبيرة التي تتوفر عليها تقاليد القبائل وأعرافها ستكون أكثر تعقيداً في نتائجها وآثارها من أي صراع سياسي واضح.
صراع من أجل المكاسب
وفي تقديرنا، إن قوى الثورة المضادة بشرق السودان فيما هي تستثمر في نظام تسييس القبائل الذي كرسه عهد البشير، فإنها كذلك تجعل من القبيلة غطاءً لنشاطها السياسوي. لهذا، فإن الشعارات التي تطابق ذلك الخطاب المستفز للعقائد والعصبيات لدى عوام البجا، وتضخ فيهم إحساساً بأن أراضيهم محتلة من قبل الغرباء (الذين هم مواطنون سودانيون من بجا آخرين وغيرهم)، ستبدو هي الشعارات المناسبة للتوظيف، وهي بالضرورة شعارات تعكس وعياً عنصرياً، وستضمر خطاباً للكراهية لا شك فيه. هكذا، سنرى في خطاب دعاة الثورة المضادة كلاماً عن “مراجعة الجنسية” والدعوة إلى “فصل إقليم البجا”، وتعميم قناعة لدى عوام البجا بأن من يعيش بينهم من غير البجا إنما هو “ضيف” يخضع لإرادتهم السياسية في المنح والمنع، وتصوير أن حكومة الثورة هي عدو للبجا، في سياق وعي مفكك لا ينتبه مثلاً إلى أن مذبحة 29 يناير (كانون الثاني) 2005 (التي قام بها نظام البشير وراح ضحيتها 21 شهيداً من أبناء البجا في مدينة بورتسودان) هي جريمة لا علاقة لها بحكومة الثورة الحالية. وسنجد في سياق ذلك الوعي المفكك ذاته، دعوات لعودة ولاة بعض ولايات الإقليم الشرقي من سدنة النظام البائد لحكم الإقليم مرة أخرى. وبدعوى الانتماء القبلي الذي لا ينتبه فيه ذلك الوعي المفكك إلى أن ذلك الوالي الذي يطالبون بعودته (كمحمد طاهر إيلا الذي تم تعيينه والياً لولاية البحر الأحمر – وهو كذلك آخر رئيس وزراء لنظام البشير – من قبل نظام البشير بعد مذبحة 29 يناير بحق شهداء البجا)، لم يفعل شيئاً في الاقتصاص من الذين ارتكبوا تلك المذبحة بحق شهداء البجا في مدينة بورتسودان عام 2005 من الوالي السابق وقادة جهاز نظام أمن البشير، بل المفارقة: أن الذين يقودون الثورة المضادة اليوم في شرق السودان، ويوظفون عقائد وعصبية بعض قبائل البجا في مشاريعهم السياسوية من أجل مكاسب فئوية خاصة؛ كانوا حتى بالأمس القريب، في مناصب سياسية؛ فمنهم من كان معتمداً لمدينة سنكات، ومنهم من كان معتمداً لشؤون البدو الرحل، ومنهم من ترشح للبرلمان في ظل النظام البائد.
وبطبيعة الحال، فإن خلاصة الأمر في مآلات الأوضاع السياسية لشرق السودان وما سيؤدي إليه نشاط قوى الثورة المضادة وفق ذلك الحراك القائم على تسييس القبائل، ستعكس في صميمها صراعاً سياسوياً من أجل المكاسب، لكنه صراع سيوظف عبر القبائل جيشاً من الأبرياء المضللين، مدفوعين بعقائد قديمة وعصبيات عتيدة ضد إخوة لهم في الوطن. وسيدفع ذلك الخطاب أولئك الأبرياء من أهلنا البجا إلى الدخول في عداء مع حكومة ليس لها علاقة بمظالمهم التاريخية، ولم تتورط في ارتكاب مذابح ضدهم، بل هي حكومة الثورة التي جاءت لتحدث التغيير إلى الأفضل من أجل جميع السودانيين وفق بند التمييز الإيجابي الذي سيكون البجا هم الأولى بجني فوائده، لأنه بند يمنح أولوية التنمية في السودان للإقليم الأكثر فقراً وتهميشاً كشرق السودان.
وغني عن القول إن الإحساس بالعقيدة شبه المقدسة للأرض، التي يستفزها قادة الثورة المضادة في بعض قبائل البجا في شرق السودان، أنها ستعمل على تذويب وتضليل حقيقة مهمة جداً (وهي في تقديرنا الهدف الحقيقي لجماعة الثورة المضادة كالمجلس الأعلى لنظارات البجا)، أي في تضليل عوام البجا بأن المدن الرئيسة في شرق السودان وامتلاكها كجزء من تلك العقيدة هي بمثابة بديهية. فيما الحقيقة أن المدن في السودان، وفقاً للدستور السوداني، هي ملك لسكانها سواء أكانوا من البجا أو من غير البجا، ما داموا مواطنين سودانيين (ولا أدل من ذلك من بديهية أن أي مواطن سوداني له حق الامتلاك الحصري في أي مدينة سودانية كشراء منزل يعتبر ملكه الخاص بالتعاقد مع الدولة). بالتالي، حرصاً على تضليل البسطاء من أهلنا البجا يصور قادة الثورة المضادة (كالمجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة)، أنه بما أن البجا هم أقدم السكان التاريخيين في شرق السودان، فإن لهم الحق الحصري بحكم أرضهم بعيداً عن أي نظام دستوري أو حقوق للمواطنة تشمل جميع السودانيين وفق الدستور وتسمح لأي سوداني، سواء أكان بجاوياً أم غير بجاوي، أن يكون حاكماً في أي مدينة سودانية ما دام مستحقاً لشروط أهلية الحكم عبر حق المواطنة والمؤهلات العلمية.
ولا نعني من ذلك، بأي حال من الأحوال، أنه ليس من حق أي بجاوي أن يكون حاكماً أو مسؤولاً ما دام هو من سكان المدن السودانية الكبرى، سواءً في الإقليم الشرقي أو أي إقليم آخر من أقاليم السودان، متى توافرت الشروط الدستورية والمؤهلات الفنية والعلمية للحكم، وفق الاعتبارات الديمقراطية ومبادئ الثورة.
هكذا، حين تستثمر قوى الثورة المضادة في العقائد القديمة للبجا عبر استنفار العصبية وتوهمهم بشعارات مثل فصل إقليم البجا، والدعوة إلى مراجعة جنسيات مواطنين سودانيين آخرين (بطريقة توحي أنهم هم الجهة المخولة بذلك)، فإن ذلك هو أخطر ما يمكن أن يؤدي إليه الحراك السياسوي (للمجلس الأعلى لنظارات البجا)، لأن نتيجة هذا العمل ستنتهي بحرب أهلية وقتل على الهوية في الإقليم.
لا نرى حراكاً مستنيراً ووعياً مضاداً
وللأسف، لا نرى في شرق السودان حراكاً مستنيراً ووعياً مضاداً من أبناء البجا، ناهيك بالقوى المدنية الأخرى من بقية المواطنين السودانيين في الشرق، في وجه ذلك الخطاب الشعبوي الديماغوجي الذي يقوده ما يسمى “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، في دعوته لمثل تلك الدعوات التي وصفنا طبيعتها الخطيرة، بل يمكن القول إن هناك من يتماهى مع ذلك الخطاب الخطير ويدعو إليه حتى من بعض الذين يحملون درجات علمية كالدكتوراه والماجستير للأسف.
ولم نلمس حتى الآن من قبل والي ولاية البحر الأحمر المهندس عبدالله شنقراي المحسوب على الثورة، أي نشاط تنويري ظاهر في دعم التوجهات السلمية والحوارية التي يمكنها أن تفند ذلك الخطاب الشعبوي لجماعة “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، وتعزز الوعي العام بخطاب مواطنة واضح للجميع عبر منابر أكاديمية، مثل “مركز دراسات ثقافة البجا في جامعة البحر الأحمر”، ما يضع علامات استفهام كبيرة حول كل ما يجري.
وأخيراً، من المهم أن يضطلع الحادبون على قيم الثورة الحقيقية والمدافعون بجسارة عن مبادئها من أجل دولة المواطنة التي رفعتها شعارات الثورة في الحرية والسلام والعدالة في المركز، ومن أبناء الشعب السوداني كله، سواء أكانوا إعلاميين أو باحثين أو مناضلين أو سياسيين أو مسؤولين حكوميين، أن يدركوا تماماً حقيقة ما يجري في شرق السودان من دعوات انعزالية وإقصائية، وأن يستشرفوا وينتبهوا بوعي للمآلات الكارثية التي يقود إليها خطاب الثورة المضادة من خلال الاستثمار الخبيث في نظام تسييس القبائل الذي كان طعنة نجلاء أجهز بها نظام حسن الترابي – البشير على هوية السياسة والمواطنة في السودان، خلال ثلاثين سنة، ودمرها تدميراً، ليخلف لنا تلك المشكلات والمآزق والخوازيق التي نجمت عن التطبيقات الكارثية لتسييس الإدارة الأهلية الذي نرى اليوم بعض آثاره الخطيرة في شرق السودان بعد الثورة.
تلك هي الحقيقة المرة التي ينبغي أن يدركها صناع القرار والثوار حيال ما يجري من نشاط للثورة المضادة والتضليل الذي تمارسه في عقائد أهلنا البجا من أجل أهداف سياسوية لا يمكن لدعاتها ورموزها أن يكونوا جزءاً من العهد الجديد للثورة.
ولا بد من التأكيد أيضاً أن هناك غالبية صامتة من أبناء قبائل البجا ونظار البجا في شرق السودان، وعلى رأسهم حكيم الشرق، ناظر قبيلة الأمرار في البحر الأحمر الناظر (علي محمود)، والناظر دقلل (علي إبراهيم)، ناظر قبائل البني عامر، والناظر كنتيباي حامد محمود ناظر قبائل الحباب، والناظر محمد طاهر حسين ناظر قبائل الجميلاب (وهم القسم الأكبر من قبيلة الهدندوة) إلى جانب ناظر قبيلة البشاريين وقبيلة العبابدة وقبيلة الحلنقة، فكل هؤلاء النظار لا يوافقون على ذلك الحراك الذي تستخدم فيه قوى الثورة المضادة تسييس القبائل، كما يفعل “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، وهؤلاء النظار الذين يشاركونهم الرأي من مواطني شرق السودان يحتاجون إلى دعم وتضامن من قبل القوى الثورية وصانعي القرار، لأن دعمهم في تكوين حاضنة عريضة من أهلنا البجا في شرق السودان لدعم السلم الأهلي والتعايش، وضد خطاب العنصرية والكراهية بين مواطني الإقليم بأمن وسلام، يعتبر من أهم أهداف الثورة التي تؤدي إلى الاستقرار.
صحيفة السوداني