مقالات متنوعة

الطبقة الطفيلية تسحق فقراء السودان

الوضع المعيشي البائس الذي يعايشه فقراء البلاد له جذور في ممارسة اقتصادنا السياسي المركزي. إنه نتاج أنانية النخبة المالكة لا غير. وهذه الجماعة الشبقة للمال مورثة علينا غصباً عنا، وتتحايل في كل مرحلة من تاريخنا السياسي المعاصر، لتحافظ على مصالحها. والانشغال بالتحليلات لسطح الواقع السياسي – على أهميتها وضروراتها – تبدو أحيانا ناقصة لو أنها لم تستصحب هذا التاريخ من التخاذل النخبوي في ضرب بور الفساد الاقتصادي عند صبح أي تغيير.

معظم الأغنياء في بلادنا يعرفون غايات النخب المتعلمة التي تبحث عن وضعية اجتماعية تدخل بها نادي النفوذ، والثروة، والسلطة. ومهما اختلفت توجهات المرحلة السياسية فإن ممارسة الطبقة الرأسمالية ظلت ثابتة لا تتغير منذ الاستقلال. تتبدل شخوصها في كل مرحلة، وتنشا أخرى جديدة. ولكن ارتباطها العضوي بالصادر، والوارد، ومزادات القطاع العام والخاص، هو العنصر الفاعل المدعم بالممارسين للسياسة.

العلاقة بين النخب السياسية، وملاك ساحة الاقتصاد، والتجارة، بعد الاستقلال – وحتى يوم الناس هذا – ظلت سمن على عسل. وحتى بعد التأميم المايوي نشأت طبقة رأسمالية جديدة كانت أقوى شكيمة، وتحايلاً، من الطبقة التي ورثتها مايو. أما الإنقاذ فضربت رموزاً اقتصادية لما نسميها الرأسمالية الوطنية، ولكن نشأت مرة أخرى طبقة طفيلية جديدة داخل التنظيم أفظع في توظيفها لفرص الصادر والوارد، واهتبالها فرص الاستثمار في مناخ الايدلوجيا المخادع، إذ كان الاستثمار في الاقتصادي، والتجاري، وسيلتها لتركيع النخب، وإخضاعها لخدمة مشروعها الذي كان يحمل يرقات آفاته.

٢ –
الآن ما يزال الرأسمالي الطفيلي يحاول وراثة الوضع الاقتصادي، والتاثير عليه، بطرق متعددة. فيها الترهيب والترغيب. على مستوى الترهيب فإن توظيف العنف في الفعل السياسي، والإعلامي، إحدى الوسائل التي جوبه بها رئيس الوزراء الذي تعرض للاغتيال ففهم الرسالة، ثم نأى بنفسه من تكليفها، وزرائه، بتجريف الخدمة المدنية من كفاءاتها الفاسدة، وهكذا حبذ قادة التغيير التطبيع أيضا مع واقع، وشخوص، القطاع الخاص الموروث.
ومن ناحية أخرى أعفى رئيس الوزراء نفسه عن الدفاع عن وزرائه الراديكاليين أكرم والقراي والتوم الذين جوبهوا بهجوم إعلامي، وابتزاز ديني محموم، حتى تخلصوا منهم، لكونهم واجهوا امبراطوريات السوق التي ما فتئت تسيطر على الاستثمار في الدواء، والتشافي، وطباعة الكتاب المدرسي. وعلى صعيد لجنة التمكين فقد تعرضت للتهديد، والابتزاز، والرشي، حتى لا تقوض الطبقة الطفيلية، وتجردها من ممتلكاتها، وإمكانياتها الاقتصادية التي حازت عليها في مناخ الفساد المتصل بذلك الصادر والوارد، وطرق أخرى في الاحتيال التجاري.
الأصل في الابتزاز الإعلامي تجاه دعاة التغيير من النخب والناشطين، واستهدافهم، اقتصادى. ومؤدى السعار في عرقلة التغيير أن النخب الاقتصادية الإخوانية والانتهازية التي فقدت موارد دخلها توظف أبناء الطبقة الوسطى، والفقراء، لتعويق التغيير الذي يستهدفها.
ما هو موجود من تنازع سياسي بين النخب هو صراع بين النخب الشريفة التي ترغب في التغيير بلا تعويض مادي، أو عيني، في المجهود، وبين النخب التي تنشط سياسيا لتجني نفوذاً، وثروةً، وسلطة. ولذلك ما ينعكس الآن على السطح السياسي من تفاصيل لأحداث عامة، وتوابعها التي تفرمها القروبات، وبوستات الفيس بووك، يمثل إلهاءً لاستعار الحرب الخفية بين هذه النخب الاقتصادية للسيطرة على موارد البلاد بتحالفات محلية، وإقليمية، ودولية.
-٢-
علما السياسة والاقتصاد يتجاذبان ويتحاذيان، وكل عالم سياسة يستلف من علم الاقتصاد في التحليل ووضع الخطط، إذ لا بناء وطني طموح يهمل الاقتصاد. ولا منجاة لعالم الاقتصاد من فهم طبيعة الاجتماع البشري القائمة على تبادل المصالح منذ فجر التاريخ. ومع ذلك ظل سياسيونا واقتصاديونا الحكوميون خلوا من الربط بين ذينك العلمين. وعند الختام يتفاجأون بالهبات الشعبية التي تحركها عوامل يتكامل فيها السياسي مع الاقتصادي، والاجتماعي، وهلمجرا.
الآن، وبعد التغيير، تنسحق الطبقة الفقيرة كل صباح نتيجة اختلافات النخب المدنية والعسكرية التي تحاول السيطرة على مناحي السلطة والنفوذ والثروة بالتواطؤ مع ملاك المال المحلي، والاقليمي، والدولي. وعندئذ تاتي السياسة المسيطرة مركزيا بعيدة عن فهم تاثير الآليات الاقتصادية على الواقع بينما تغدو الخطط الاقتصادية بعيدة عن مصلحة الطبقة الوسطى والفقراء خصوصاً.
الخارج، مع أهميته، ليس بديلاً عن الداخل في تفجير الطاقات الاقتصادية المتوفرة. ومهما أوتي عالم الاقتصاد من علم، وتجربة، فحاجته للوعي السياسي بعلاقة السياسة والاقتصاد عميقة. وهناك أيضا حاجته للوعي السياسي بان إصلاح الاقتصاد يتطلب فهم طبيعة التمكين الاقتصادي الطفيلي والانتهازي الإخواني، وغير الإخواني، الذي يعيش كالسوس في جسد الوطن. وإذا كان حمدوك، ووزير ماليته، يدركان هذا التمكين، ويغضان البصر عنه عند التخطيط الاقتصادي، فتلك مصيبة، وإذا كان قياديا التغيير لا يدركان عمق هذا التمكين في تعويق تخطيطهما هذا فتلك مصيبة أفظع.

صحيفة التحرير