تعدد وتنوع حراك السلام على الأرض بجنوب كردفان
في نهاية مارس الماضي، وقعت الحكومة الانتقالية برئاسة سعادة الفريق عبدالفتاح البرهان اتفاق مبادئ مع رئيس الحركة الشعبية القائد عبدالعزيز أدم الحلو سعياً لسلام ينهي حرب العقود الثلاثة، و يتجاوز كماً من المآسي والمرارات التي أفرزتها المغالبة والاقتتال، ذاق بأسها مواطن الولاية المغلوب وتحمل ويلاتها منفرداً بصبر.
وبغض النظر عن تفاصيل ومضمون الاتفاق، فإننا نثمن عالياً هذه الخطوة لكونها بشارة خير وستكون ذات قيمة نوعية ومضافة لمواطن المنطقة، وهنا أعني جنوب وغرب الولاية. فإذا استكمل هذا الاتفاق بجولات تفاوض لاحقة جادة ذات مصداقية وإرادة من الطرفين سيكون ذلك رافداً اساسياَ يصب ويغذي تيار السلام القادم بنواقصه من جوبا. فالتحية لجوبا التي فارقتنا لكن ظلت تحملنا في جوانحها كما نحن ونتأسي ” جوبا مالك علي”. نعم أنه اتفاق مبادئ لكن مفردات بنود قد جاءت مبشرة لتجاوزها الكثير من المتاريس التي كانت توضع عمداً على طاولات التفاوض فلما لا ندعمه.
فصيل القائد الحلو هو الاقدر على صنع السلام في المنطقة لانه يتحكم على جزء كبير من جغرافيا ميدان الحرب، خاصة أذا جمع بين الثابت من فقه المبادئ القومية القطعية جنباً الى جنب مع مقاصد تحقيق مصالح أهل المنطقة التي عطلتها الحرب سنيناً، فلا تُرجح أو تطغي جزئية على أخرى. واستصحاباً لمفاهيم العمل الاستراتيجي” “Think global or national but act local” وذلك بالربط والالتزام بما هو قومي مع مراعاة مصلحة ماهو محلي يخص عيش المواطن وحقه في الاستقرار والخدمة والتنمية التي ستحرمه منها الحرب. وأن أي خلل في هذه المعادلة سيكون فيه تجني على مواطن جنوب كردفان الذي ظل منتظراً طويلاً، منقسماً على نفسه بين واقفاً معا الحكومة أو داعماً للحركة الشعبية، وفي كلا الموقفين فإن المواطن هو الخاسر الاكبر. الم تدمر الحرب قراه وفرقانه ومدارسه وطرقه وجسورها وشفخاناته.. الم يهاجر الموطن الى خارج الولاية بحثاً عن الامن والسلام وفي ذلك كابد مر الحياة والذلة بعد أن كان يكسب عيشه سهلاً. هذا واقع مؤلماً لا جدال فيه وينبغي أن يجد الاولوية والاعتبار في بنود التفاوض والاتفاق وتأكيد التمييز الايجابي في اعادة التعمير والبناء. وأي كان الحال فإن السلام الذي نطق به أتفاق المبادئ في راينا مقصد مقدس ندعمه بقوة و نريده واقعاً يمشي بين القرى والفرقان وكهوف الجبال وفي ذات الوقت عيننا على المؤتمر الدستوري ليكمل الخياطة بالحرير فيما لم يقننه ويفتي فيه اتفاق المبادئ.
الجانب الثاني الذي يتكامل مع الجهد الحكومي هو جزئية الحراك الشعبي وأنا أفضل تسميته كلية الحراك الشعبي، لأنه الحارس الاهم في تسوير السلام، حيث الادارة الاهلية بنظارها ومكوكها/ شباب وأطفال المنطقة الذين اصبحت الفرص المتاحة لاجلاسهم في مرحلة الثانوي لا تتعدى ال 14% وباقيهم فاقداً تربوياً نحملهم مسئولية التفلت في المنطقة. يضاف الى ذلك المرأة مربية الاجيال التي فقدت زوجها وابيها وابنها وهجرت قريتها ومرعاها حيث كانت يوماً ما تكسب سبل عيشها باطمئنان، هذا هو المكون الحقيقي الصامت الذي يبحث عن السلام ونود أن نستنطقه.
المتتبع لتفاصيل زيارة رئيس الوزراء حمدوك لكاودا والفديوهات التي نقلت الحدث يشاهد تدفقاً عفوياً للجماهير من داخل مناطق الحركة وخارجها وكانت تجمع بينهم كلمة سر مشتركة ” نينا دايرين السلام”. طبعاً كلمة نينا قد تفوت على الكثيرين حتى لو استعانوا بمساعدة العم “قوقل”. وتبع زيارة حمدوك لكاودا حراكاً شعبياً كثيفاً لا يلوي على شئ إلا السلام. فتحركت مجموعة حواء التي اكتوت بالحرب من المنطقة الشرقية الى جوبا كانت منهن الناشطة عواطف أخرش البدوي لها التحية. وتتابعت كذلك زيارات شعبية من الحوازمة ايضاً بالشرقية يقودها الناشط المستشار اسماعيل هجانه بل حدثت تفاهمات محلية بين كنانة والحركة الشعبية، اعقبها سفر وفد شعبي من منطقة المسيرية بغرب كردفان. تلتها ترتيبات لقيام وفد من الادارة الاهلية للحوازمة عبدالعال برئاسة ناظرها بقادي محمد حماد ولكن تأجل لدخول شهر رمضان المبارك. كل هذا الحراك الشعبي الذي لا يتسع المقال لاستعراضه قد استوعبته الحركة ولأول مرة بأفق يشئ بأنها قد وصلت الى يقين أن هؤلاء يمثلون جزء من الحاضنة الكبرى التي سوف تدعم مشروعها الاصلاحي من أجل سودان جديد كما ترفعه في شعاراتها. هذا التكتيك الجديد لو انتهجته الحركة منذ البداية لربما أختصر لها الطريق وصولاً الى المركز الذي يتحكم فيه بعض الجبابرة.
إن هذا الحراك يذكرني بما حدث شعبياً بعد قيام المستعمر البريطاني باعتماد سياسة المناطق المقفولة في 1922م، بضربه سياجاً عنصريا عزل وًفرق بين ابناء البلد الواحد. لكن شعبنا الأبي صاحب المفاجئات وعندما ايقن خطل هذا التوجه العنصري للمستعمر ولتضرر مصالح المواطن الذي لم يكن أصلاً جزء من جهة اتخاذ القرار. هب متحدياً هذه السياسة احتجاجاً وعملاً. فرفعت أول مذكرة احتجاج تعارض ذلك من أهل وأعيان مدينة تلودي في عام 1936م رافضه نظام الابارتيد. وهنا نحي اهلنا في تلودي على نضالاتهم المستمرة. تبعه حراك شعبي وتواصل بين الحوازمة والنوبة بالمنطقة الشرقية حيث قام وفد كبير بقيادة والد الباحث الكتور على حموده صالح في مشهد درامتيكي لا يخلو من المخاطرة والجُرئة، فكان اللقاء والتفاهم في عمق جبال تيرا عند المك “كودي ابو خروس” والاتفاق بالتراض على كيفية اعادة روح التعايش السلمي والتواصل فتم اختيار العم /صالح كحيف المذكور شيخاً على العرب وتيرا في المنطقة تحت مظلة المك كودي وبذلك أنتهى مشهد هدم الجدار العنصري الذي بناه الانجليز مستسلمين لارادة أهل المنطقة. فما اشبه الليلة بالبارحة فالفصل الذي تشهده المنطقة اليوم بين مناطق محررة تديرها الحركة وأخرى تحت سيطرة الحكومة مع الفارق يحمل ذات المعني ومؤكد إذا لم تتجاوب الحكومة والحركة الشعبية لرغبات المواطن المتصاعدة للسلام وحرية التواصل فإن أهل المنطقة الصامتين سينطقون بقرارهم في ذلك.
ما يسعد النفس أن هناك روح جديدة سادت مؤخراً اخذت في التنامي وارى أن الحركة والحكومة قد قرأتاها بشكل ايجابي وأدركتا خطأ معالجة صدام مرحال “الورل” الذي اتاح الفرصة لامراء الحروب تصعيده. لكن لقد كبح جماحه العقلاء. فقامت الحركة بالتهدئة وقامت الادارة الاهلية للحوازمة والنوبة في المنطقة مستدعية تاريخ التعايش السلمي بينهم، فقالت للغوغاء وأمراء الحروب التي ضربت طبول التناصر ” افلا تعقلون ” أن خلاف الزرع والضرع لا يمكن أن يكون دماءً ودماراً لأهل المنطقة فاثمر ذلك اتفاقاً عالج مشكلة المرحال فعبر الظاعنين في رحلة العودة بسلام وعمت روح الاخاء والتسامح.
وتتويجاً لهذا الاتفاق والتوافق بادرت عموديات الحوازمة دار نعيلة الاسبوع المنصرم بدعوة قيادات من الادارة الاهلية للغلفان “أونشو” للاحتفال بهزيمة الشر وتكريم بعض قادة الحركة الشعبية الذين ساهموا في منع الفتنة وتعزيز السلام. فكان لقاء “الكندماية “الاحتفالي الاسبوع المنصرحيث تم الاجتماع والتعافي والتصالح مع تكريم دعاة السلام والتحية للأخت الاميرة نجوى الزبير التي سافرت من الخرطوم وشكلت حضوراً فاعلاً ضمن أهلها دار نعيلهوزودتنا بالمعلومات.
صحيح أن هذه الخطوة الجرئية التي قادها كل من العمدة بخاري محمد الزبير والعمدة صديق لم يكن مُجمع عليها بشكل واسع لدى الحوازمة. لكن واضح أن فيها صحة تقدير ولا يمكن المزايدة في مبادرتهم، لأنهم يوماً ما عندما أصبح الامر يكون أو لا يكون كانوا في مقدمة المدافعين بشراسة عن حقهم والنفس. فلماذا لا يكونوا اليوم رسلاً للسلام طالما مدت لهم يد بنوايا حسنة. الواقع يقول دائما الحلول الشاملة تبدأ بمثل هذه المبادرات الشجاعة والجريئة حتى لو كانت فردية. نعم لقد تحفظ بعض الحوازمة على هذه الخطوة التي ينظر اليها البعض بشك وارتباب لكون بعض ضحاياهم من الحركة الشعبية لا تزال دمائهم لم تجف ويدللون على ذلك بأنه رغم الحراك هنا وهناك للتصالح ووقف العدائيات لكن لا زال بعض متفلتي الحركة يقتلون الرعاة وتساق المواشي المنهوبة الى داخل ما يسمى بالاراضي المحررة ويقولون لو ارادت قيادات الحركة وقف ومعالجة ذلك لفعلت لكنها تغض الطرف عن ذلك رغم أن استخباراتهم تنقل لهم هذه المعلومات وهذه الاحداث باستمرار.
اي كان رأي البعض في مصداقية ما يجري على الارض من حراك ايجابي في اتجاه السلام لكن في رأي الشخصي أن هذه المرة فإن لقاء ” الكندماية” قد أكسب الحراك مصداقية عالية خاصة عندما نتعرف على اسماء قيادات الحركة التي شاركت فيه وبقيادة الباقر ابراهيم حميدان والعديد من رموز الصف الاول بالحركة. فالباقر شاب حازم لطبيعة تربيته التنظيمية وواحد من المعنيين بالمعلومات والاستخبارات برتبه رفيعة. وهو ودود بسيط على المستوى الشخصي قابلته وتعرفت عليه في مؤتمر كاودا اكتوبر 2017م، وكان من المعنيين بأمن وتأمين القيادة. تفحصني بطريقة غير مباشرة عندما كنت بصدد مقابلة الاخ زميل الدراسة كمرد القائد عبدالعزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية في نهاية المؤتمر. لكن أطمأن أكثر عندما عرف عني من الاخ القيادي المستشار كوكو محمد جقدول زميل الدراسة الذي سهل لي مقابلة القائد عبدالعزيز الحلو والاجتماع بهم معاً.
اسعد كثيراً عندما تكلف قيادة الحركة شخصاً من ابناء المنطقة مثل الباقر ابراهيم حميدان أو أمثاله ليقود تفاوضاً أو يخاطب طرفين يعرف ما بينهما من علاقة متأصلة تسامحا وإخاء، شاءت السياسة على أن تجرف بعض قيمها الفاضلة، لتزرع مكانها الشكوك وعدم الثقة. شخصاً ملما عارفاً بتفاصيل العلاقة والتداخلات العميقة بين أهل المنطقة دما وثقافة وتاريخا وجغرافيا. أعتقد أن هذا هو المفهوم الجديد الصائب الذي تتبناه اليوم الحركة في إدارة الصراع المحلي بادوات وشخوص من ابناء المنطقة وبلغة يفهما البسطاء.
حيث دعا الاخ الباقر في خطابه لجموع المحتفلين في الكندماية من الحوازمة والنوبة الاستمرار في برنامج وقف العدائيات بينهم واستكمال المصالحات بين مختلف مكونات المنطقة والسير على طريق الاجداد في التعايش. مؤكداً أن هذا التوجه يدعمه القائد عبدالعزيز الحلو وكذلك والي الولاية، بل زاد مطالباً الحكامات التغني للسلام. لقد وقفت اتدبر مفردة تغني الحكامات للسلام التي اشار اليها كمرد الباقر لكونها أداة ايجابية يود تفعيلها في هذا الظرف. فهي رسالة قوية ويعرف ثقلها ومحمولها ابن المنطقة. صحيح أن لقيادة الحركة الشعبية تقديراتها الخاصة عند تفويض من يتحدث أو يفاوض باسمها، لكن رجائي الخاص لهم قدموا لنا ابناء المنطقة الذين يفهمون في تراث وارث اهلها وتاريخ العلاقات بينهم، لا أناس جاءت بهم الظروف لعلاقات ايدلوجية من الخارج لتبني قضايا المنطقة. ومثلهم لو طلبت منه أن يعدد لك خمسة جبال فقط مع سكانها لبهت إلا إذا استعان بصديق واعتقد القصد والمعني في ذلك واضح.
نحن نتفائل بجولة مفاوضات يو 25/ مايو بين الحكومة والحركة.. ومتفائلين أن مساعي الولاية لترميم البنية التحتية الاجتماعية قاعدة السلام الحقيقة قد انتظم برنامجها في التنفيذ منذ قدوم الوالي الحالي. فغد القريب سيكون لقاء شباب كادوقلي للسلام بمشاركة الحركة الشعبية. وستكون البنية التحتية الاجتماعية هي منصة الانطلاق نحو سلام حقيقي خاصة لو فُعًلت قطاعات مثل الادارة الاهلية / المرأة / الشباب تكاملاً مع قوة الارادة والمصداقية السياسية لطرفي التفاض وأختم كلامي بأن أهل الولاية يقولون ” نينا دايرين السلام ” فعلينا الاستماع والاحتكام لهم.
العالم أحمد دقاش
صحيفة التحرير