مقالات متنوعة

ليلة البحث عن نظارة السيد الرئيس

الزمان: مساء يوم مثل سائر الأيام في مطلع سنوات الثمانين
المكان: دار رحيبة فاخرة في عاصمة أفريقية جميلة
جاء الرئيس الأسبق جعفر نميري لتلك العاصمة الأفريقية الحالمة التي تسبح في بحور من الخضرة وتغتسل بقطرات الندى كل صباح، جاء لحضور أحد التجمعات الأفريقية ، وجاء معه وقبله حشد من الرسميين والمرافقين والوصفاء والأطقم الأمنية ووفود المقدمة ووفود المؤخرة، توزعوا جميعهم على الفنادق الفاخرة وانطلق معظمهم ينثر الدولارات الرسمية يمنة ويسرة في أسواق المدينة نهارا وفي مرافقها الجميلة مساء .. حتى كانت تلك الأمسية التي التأم فيها شمل هؤلاء الزوار مع مجموعة السودانيين صغيرة الحجم المقيمة هناك، وضمتهم جميعا دار السفير السوداني الرحيبة المترفة لتناول طعام العشاء على شرف الزيارة الميمونة.

حضر السيد الرئيس ، الذي لم يكن وقتها قد اكتسب لقب “الرئيس المؤمن” أو لقب ” إمام المسلمين”، وصافح بقوة وحرارة الحاضرين فردا فردا في لطف بالغ وحيوية دافقة، ثم دلف لداخل الصالون حيث انتقوا له مجلسا وثيرا يتوسط الواصلين والطامعين في الوصول، وانطلق صوته الهادر بالتعليقات والضحكات،ومن حوله يشاركونه الضحك أحيانا ويؤمنون على ما يقول أحيانا أخرى ، حسبما يقتضي الموقف. وحان وقت العشاء، فتسابقوا ينتقون له الأصناف ويقدمون الأطباق المشفوعة بعبارت “عشان خاطري يا ريس” .. و “دا عجبني ليك يا ريس” .. حتى امتلأ الرجل تماما، وفرغ الجميع من تناول الطعام بما أعقبه من حلوى وفواكه ومشروبات مثلجة وساخنة.

ثم انفض السامر، وتحرك رتل السيارات بالسيد الرئيس .. وسكتت أنغام “أب عاج أخوي” الصادرة من جهاز التسجيل الضخم داخل الدار، وانصرفت الأطقم الأمنية التي كانت قد انتشرت كالذباب في كل أرجاء الدار.. ووقف السفير سعيدا بهذا الإنجاز الكبير، وهو يفرك يديه نشوة وظفرا ، فرحا بتأكيد خصوصية علاقته بالسيد الرئيس ومدى قربه منه.. الأمر الذي كان يحرص دائما على ترديده ضمنا أو صراحة كلما جاءت مناسبة أو بدون مناسبة.

وبينما كان المدعوون يصافحون السفير السعيد مودعين وشاكرين كرم الضيافة، إذا بسيارة من ركب السيد الرئيس تعود مندفعة عبر بوابة الدار الخارجية وتدور نصف دورة قبل أن تفلح الكوابح في إيقافها قريبا من موقف المضيف ومن بقي من الضيوف.. ويتطاير الحصى من تحت إطارات السيارة ممزقا هدأة الليل الإستوائي الساكن، ثم تفتح أبواب السيارة ويقفز منها ثلاثة على عجل يتجهون نحو المبنى الرئيس… وتتوزع المشاعر في تلك اللحظات بين الترقب واللا مبالاة والفضول والفرح غير المؤسس.. ومرت لحظات صمت قطعها أحد الفرسان الثلاثة بالإجابة على سؤال لم يساله أحد بعد: “ما في عوجة.. بس الريس نسي نظارته !”

ويواصل الفرسان الثالثة انطلاقهم للداخل في مهمة البحث عن النظارة.. ثم ينضم إليهم آخرون انتشروا في قاعة الطعام وركن المغاسل والحمامات والصالون ومجلس السيد الرئيس وما جاوره، وانبطح بعضهم على الأرض للبحث تحت المقاعد وبين الحشايا والمساند .. وعمت الدار حمى البحث عن النظارة .. وتمر الثواني والدقائق ويزداد عدد الباحثين من كبار القوم وصغارهم .. وبدا كما لو أن النظارة اختفت إلى الأبد .. وفجأة انطلق صوت “أرخميدس البشير” :” وجدتها… وجدتها..”

والتفتت أنظار الباحثين والمراقبين إلى مصدر “البشارة” لتجد يدا ظافرة مرتفعة في الهواء تلوح بالنظارة المفقودة.. ها هي النظارة إذن .. بإطارها الأسود وعدساتها البراقة والأنظار الموجهة نحوها..ووقف الباحثون لثوان يتأملون النظارة المرتفعة في الهواء واليد المطبقة عليها .. ويهب الفرسان الثلاثة ، الذين ما زال محرك سيارتهم دائرا في الخارج، هبة رجل واحد مادين أيديهم إلى حيث كانت النظارة، فتشتد قبضة “أرخميدس” عليها في تصلب غريزي، وتتصلب قسمات وجهه، وتلمع عيناه ببريق غريب فيه مزيج من الإصرار والتحدي، ويرفض أن يتخلى عن كنزه لأي كائن، ويهم بالتحرك للخارج.. وفجأة انتهره أحد الحاضرين طالبا إليه بلهجة آمرة أن يعطيه النظارة.. ووقف “أرخميدس” جامدا كتمثال ثلجي للحظات قليلة، ثم مد يده ببطء شديد للرجل وسلمه النظارة في انكسار حزين يمزق القلب ، وقام هذا بدوره بتسليم النظارة لأحد الفرسان الثلاثة الذي كان فيما يبدو القائد الأول لعملية البحث كلها. وقفز الفرسان الثلاثة إلى داخل السيارة التي كانت أبوابها مشرعة ومحركها دائرا، وانطلقت بهم السيارة، ورابعهم “أرخميدس” هذه المرة، إلى حيث كان يقيم السيد الرئيس.

وعادت الإبتسامة السعيدة مرة أخرى تزين وجه السفير وسرت النشوة في الباقين وانطلق صوت جهاز التسجيل يردد من جديد:
” تسلم .. تسلم.. أب عاج أخوي يا دراج المحن”
(عبدالله علقم)
أعيد نشر هذا المقال بمناسبة مرور 47 عاما على انقلاب 25 مايو1969
(نشره الراحل عبدالله علقم بتاريخ ٢٥ مايو ٢٠٢١م)

عبدالله علقم
صحيفة التحرير