مقالات متنوعة

منصور يوسف العجب يكتب: من أجل سلام عادل وشامل ودائم في السودان (13)


بقلم د. منصور يوسف العجب أبو جن/ وزير الدولة بالخارجية الأسبق

أهمية إعادة الأعمار بعد فض النزاع :
كما ذكرنا سابقا، عملت الحرب على تدمير مناحي الحياة، خاصة بالجنوب، وجبال النوبة ، وجنوب النيل الازرق وبعض مناطق شرق السودان. هذه المناطق كما هو معروف عانت من تخلف وتهميش شديد، حتى في الفترة التي سبقت وقوع الحرب. واعادة تعميرها وتحسين أوضاع مواطنيها ، تتطلب موارد ضخمة وقدر من الزمن ليس بالقصير.
على حكومة السودان والمانحين ان يبتدعوا وسائل خلاقة لتوفير الموارد الهامة لاعادة تعمير هذه المناطق. في هذا الخصوص لابد من الاستفادة من الدروس المستخلصة من التجارب السابقة في إعادة التعمير التي تلت الحرب الأهلية الأولى. في تقديرنا ان فشل برامج إعادة التعمير واعادة استقرار المواطنين في الفترة ما بين 1972- 83 ، ساهمت مع عوامل أخرى مساهمة كبيرة في إشعال نار الحرب مرة اخرى.
من أهم أسباب الفشل الآتي: (راجع أدبيات Justice Africa ومقررات مؤتمر كمبالا الأول والثاني والثالث ، والتي شارك فيها كاتب هذه الدراسة).
أ) الكثافة الرأسمالية للتكنولوجيا المستعملة والتي ذات معدل فشل عالي.
ب) عدم استشارة المواطنين قبل البدء في المشاريع الضخمة كمشروع قناة جونقلي، قاد لمخاوف كثيرة.
ج) الفشل في تنفيذ بعض المشاريع المتفق عليها كمشروع منقلا وملوط لانتاج السكر.
د) الافتراض الخاطئ بان المناطق المتضررة بالحرب سوف تتمكن بسرعة من جمع موارد ضرائبية عقب إنهاء الحرب، لتمويل الإدارة بالجنوب.
هـ) سيطرة الخرطوم على ميزانية الجنوب والفشل في توفير الموارد المالية الموعودة، ادى ذلك لتقويض الإدارة الجنوبية، وتآكل الحكم المحلي، ونزوح العديد من موظفي الخدمة المدنية بالجنوب للخرطوم بحثا عن الدخل.
و) الفشل في توفير العيش المناسب للمقاتلين السابقين فغالبيتهم تمت إعادة استقرارهم في مشاريع زراعية ضعيفة.
ح) العدالة في توزيع الخدمات الاجتماعية والمشاريع التنموية داخل كل اقليم (intra-regional) ، لم تحظى بالاهتمام الكافي.
خ) الاعتماد في التنمية ورفاهية المواطن على المنظمات الدولية غير الحكومية والتي فضلت تركيز الجهد على بعض المناطق ، فاقم من التفاوتات الإقليمية، وازدياد الحساسيات، وتقويض طاقة الحكم المحلي.
ر) المشاريع المدعومة بالمساعدات (aid projects)، استغلها السياسيون كوسيلة لشراء الاصوات الانتخابية.
نقترح لمواجهة بعض هذه المشاكل وكما جاء في توصيات منظمة Justice Africa ، عمل الاتي:
أ‌) صندوق دعم (trust fund) ، لإعادة تعمير المناطق المتأثرة بالحرب بالجنوب ، على أساس خطة لإعادة التعمير ومتابعة التنفيذ ، يكون متفقاً عليها في الفترة الإنتقالية من قبل إدارة الجنوب والمانحين .
ب) صندوق دعم لإعادة تعمير المناطق الأخرى المتأثرة بالحرب كجبال النوبة ، وجنوب النيل الأزرق ، وشرق السودان ، ودارفور على غرار الصندوق المقترح أعلاه .
ج) صندوق دعم قومي إنتقالي لإعادة التعمير . يختلف هذا الصندوق عن أعلاه بأن إدارته ستكون بواسطة الحكومة الفيدرالية وعلى أساس خطة إعادة تعمير أساسية (basic) تدار بواسطة الحكومة الفيدرالية .
في نظرنا لأبد أن يكون هناك تنسيق بين إدارات هذه المناطق والحكومة الفيدرالية ، لما للحكومة الفيدرالية من علاقات خارجية تساعد في دعم هذه الصناديق ، كما من الممكن أن تعمل الحكومة على توفير بعض الخبرات السودانية التي ربما لا تكون متوفرة في هذه المناطق .
مسألة أخرى هامة جداً تتمثل في رصد الخبرات السودانية التي لديها الإستعداد للعمل في هذه المناطق جنباً إلى جنب مع الخبرات الأجنبية .
من المهم أيضاً ، أن يتسم أداء هذه الصناديق بالشفافية ، وأن تتخذ القرارات بأسلوب جماعي يتوفر فيه قدر عالي من المحاسبة .
يجب أيضاً تجنب المساعدات المشروطة ، اللهم إلا في حدود معايير عملية معينة ، ككفاءة البرامج والمشاريع المرتبطة بها ، والشفافية في القرار والعدالة في توزيع الموارد .
لأبد أن نوضح أيضاً إن نجاح أداء هذه الصناديق متربط إلى حد كبير بما ذكرناه سابقاً من تصور لإعادة التعمير بعد إحلال السلام بإذن الله .
كيفية التعامل مع العولمة :
من المهم أن نذكر بأنه لا مفر من التعامل مع العولمة ، خاصة وأن الحكومة الحالية قد شرعت في الإنضمام لمنظمة التجارة العالمية . هذه الخطوة تعني إلغاء القيود على الإستثمار والتجارة ، والتنازل عن السيطرة على السياسة الاقتصادية المحلية . هذه الخطوات لا يمكن التراجع عنها بعد الإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية ، لأن ذلك تترتب عليه عقوبات صارمة . لذلك نقترح التريث . زد على ذلك نجد العديد من الشركات المرتبطة بالنظام الحالي ذات إرتباط وثيق بالشركات عابرة القارات من خلال إرتباطها ببعض هذه الشركات العاملة بالشرق الاوسط وماليزا الخ . هذا الإرتباط سيؤهل هذه الشركات السودانية للإستفادة القصوى من العولمة أكثر من غيرها.
لذلك وجب على الحكومة الديقراطية المرتقبة أن تقوم بالتقييم الجاد والحذر لأثار العولمة على السودان من خلال تحديد مراكز القوة والضعف للإقتصاد السوداني عند تكامله مع الأسواق العالمية .
هنالك عدة إستراتيجيات حددتها منظمة Justice Africa والتي يمكن إتباعها في هذا الخصوص.
أ) العولمة المتعجلة (crash globalisation) :
تهدف هذه لرفع كل القيود الرقابية المتبقية لتنظيم الإقتصاد ، وتسمح للمؤسسات الخاصة المحلية والعالمية لتتمتع بالحرية التامة للحصول على الموارد وإستغلالها . ربما تقود للإستيلاء السريع (take over) على المؤسسات الوطنية المربحة والتملك السريع للأراضي والمزارع الخاصة وتربية الحيوان ، والإستغلال السريع للبترول والموارد المعدنية للكسب الخاص . سيكون إندفاعاً (gold rush) ، أشبه بالإندفاع نحو الذهب بأمريكا سابقاً ، يؤدي لخطف كل القطاعات المربحة بالإقتصاد بواسطة القادرين على شرائها أو أصحاب النفوذ لحيازتها .
إتباع هذا الخيار ستكون له أضرارً سلبية جسيمة ، على المناخ الإقتصادي والسياسي السوداني الهش . نشير هنا إلى أن التوزيع غير العادل للدخول ، والنهب الذي مارسته بعض شركات القطاع الخاص ، ساهم في إندلاع الحرب .
كما يعلم الجميع ، أدى إقتصاد السوق الحر غير المنضبط بالسودان ، إلى هيمنة البعض على المواقع الإقتصادية الهامة ، بالإستفادة من ظروف الدكتاتورية والحرب . هذه المجموعة المهيمنة إقتصادياً ، تمثل قطاعاً صغيراً من المواطنين ، وتتمتع بدعم سياسي قوي لما لها من ميل حزبي مع الحزب الحاكم . للأسف أتبعت هذه المجموعة وسائل لا تعرف الرحمة لتحقيق المصالح قصيرة المدى ، على حساب التماسك الإجتماعي والحفاظ على البيئة .
لذلك لدينا قناعة بأن خيار العولمة المتعجلة بالسودان سيقود حتماً إلى عدم الإستقرار السياسي ، إن لم يقد إلى العودة إلى النزاع . كما إن هذا الوضع يعوق من الإستثمار بواسطة الشركات الأجنبية ورجال الأعمال السودانيين .
ب) مقاومة العولمة :
ربما يدفع الخوف من العولمة المتعجلة الحكومة الإنتقالية للإنسحاب من منظمة التجارة العالمية ، وإعادة القيود على الإستثمار والتجارة . هذا الإجراء ربما تكون له فوائد في المدى القصير ، ولكن لا يمكن الحفاظ على هذه الفوائد بصورة مستديمة لأي فترة من الزمن . بالإضافة لذلك ، لابد من الإتفاق حول هذه السياسات مع دائني السودان والذين في الغالب لن يوافقوا عليها ، وربما يتراجعون عن إعفاء الديون وتقديم العون الخارجي .

صحيفة الانتباهة