قراءة خارج الصندوق (2)
(1)
أما وقد خرج السيّد رئيس الوزراء مخاطباً الرأي العام بكل وضوح أن مصير البلاد بات على شفا جرف هار، وبغض النظر عن الحيثيات أو البحث عن مشاجب في ملهاة لعبة تلاوم لن تعجّل إلا بوقوع ما يحذر منه ذوي الحجا، فإنه يجب التعاطي مع هذا التحرك المنذر بكل جدية ومسؤولية وحرص على تجنيب البلاد والعباد لمصير نرى حصاده عياناً بياناً مستعراً في العديد من دول الإقليم التي تجاهلت النذر وتعاملت طبقتها السياسية والسلطوية مع الخطر الذي كان يحدق بها بقدر كبير من البلاهة والغباء والجهل بعبر التاريخ وسير الأمم.
(2)
وهذا يعني بوضوح أن يحرص رئيس الوزراء نفسه، والمعنيين بتحركه هذا سواء في طبقة الشركاء الحاكمة، أو المعارضين لها، أو سائر نخبة المجال العام، أن يدور حوار منتج صريح وشفّاف ودون مجاملات لتشخيص جذور العلة، ووصف العلاج الناجع مهما كان صعباً أو مراً.
ولعل الخطر الداهم الحقيقي يأتي من إضاعة هذه الفرصة وقتلها في مهدها سواء بسبب التفاعل “الحلزوني” معها من قبل الطبقة السياسية والعسكرية، أومن أولئك الذين يريدون تحويلها إلى مهرجان للتهريج والسطحيةحتى بعد أن ألقم حمدوك نفسه الجميع حجراً بأن مصير البلاد على المحك مما لا يستقيم معه ممارسة أي هرج.
(3)
ولعل إطلاق صفة “مبادرة” أضعف من أهمية خطوة تحرك السيّد رئيس الوزراء، وهذه كلمة ابتذلت في معناها من كثرة استخدامها مع مردودها الشحيح في فضاء الناشطين السياسيين، ولا مجال لها للاستخدام هنا إذ تضعف كثيراً من قيمة ومعنى هذا التحرك ومآلاته، إذ تقزّمه إلى مجرد شغل نشاطية سياسية، في بلد بات يعرف بسلة مبادرات العالم، فرئيس الوزراء صاحب مسؤولية ومهام وصلاحيات دستورية صميمة، فهو من يتخذ القرارات وليس مجرد إطلاق مناشدات بلا أسس مرجعية ولا آليات تنفيذية، ذلك أن موقف الدكتور حمدوك يجب أن ينطلق من حقيقة أنه يجب أن يتصرف حيال هذا الخطر المحدق بالبلاد من موقع أنه رئيس الوزراء الذي يتحمل المسؤولية التامة بحكم دوره القيادي المحصّن دستورياً في الوصول إلى هذه الحالة والمآلات الناجمة عنها، وأيضاً في البحث عن مخرج منها.
(4)
ولذلك لم يكن الدكتور حمدوك محتاجاً للقيام في خطابه بدور المراقب أو المحلّل السياسي، كما حاول تصويره كتبة الخطاب، فكل القضايا التي أشار إليها هي في واقع الأمر مسائل من صميم عمل بناء الدولة الذي هو في قلب مهمته الأساسية، ولذلك فإن الأسئلة المثارة أصلاً في الفضاء العام، او التي طرحها بنفسه في هذا الخطاب،كان يجب أن يقدم لها الأجوبة، لا مجرد طرح التساؤلات ما دام وصل إلى هذه القناعة بخطورة مآلات الوضع الراهن، فمن الذي عطّل قيام أو اكتمال مؤسسات الانتقال المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية طوال هذه المدة، على الأقل فيما يليه من صلاحيات منصوص عليها في الوثيقة لا سيما وأنه قد آلت إليه كرئيس للوزراء كل الصلاحيات التنفيذية في النظام الرئاسي، ولماذا تتعدّد مراكز اتخاذ القرار، ولماذا تتضارب الصلاحيات، ومن المسؤول عن ترك هذا الفراغ في السلطة التنفيذية ليتمدد فيها المجلس السيادي بمكونيه العسكري والمدني، ولا شك أن إغفال إثارة هذه المسألة ومناقشتها بشفافية في خطاب رئيس الوزراء وتبيان دورها فيما آلت إليه الأمور يطرح تساؤلات عن مدى جدية وجدوى هذا التحرك إذا الغرض منه الوقوف بحزم أمام الانهيار المتسارع الخطى نحو حافة الهاوية، وليس لمجرد البحث عن مشاجب وإلقاء اللوم على الآخر.
(5)
والملاحظة الأخرى على خطاب السيّد رئيس الوزراء أنه حفل بتعدّاد “مظاهر الأزمة العامة، وخطرها على الانتقال”، والاكتفاء بإلقاء اللوم فيها على “تصاعد الخلاف بين شركاء الانتقال” وعلى “التشظي والانقسامات بينها “وعدم وجود مركز موحد للقرار وغياب الأولويات والتصور المشترك للانتقال”، ولا أدري ماذا أبقى من متردم لناقد، فهذا توصيف ينسف معادلة الانتقال الراهنة من جذورها، فإذا افتقرت لكل هذه الركائز التي لا غنى عنها فماذا بقي لها لتعمل؟ وأي خير أو حل يُرجى منها؟! ما لم يقله السيّد حمدوك لماذا تُرك الحبل على الغارب حتى يحدث هذا الذي يصفه بكل هذه النقائص المنكرة.
والسؤال هل حدث هذا التشظي صدفة أو اعتباطاً؟! ونواصل بإذن الله
صحيفة السوداني