محمد جميل أحمد يكتب بورتسودان… سيرة مدينة يسكنها الموت..ثمة شيء مريب في الاجتماع السياسي لهذه البقعة
ثمة شيء مريب في الاجتماع السياسي لهذه البقعة المنكفئة على نفسها ومكوناتها
“نحنُ الذين نتكلَّمُ مِنْ جُثَّتكِ؛ نَفْتحُ نَوافِذَنا في رُمَّتكِ المُتَصَحِّرةْ
نرى الدِّماءَ تنزلُ من العِصيِّ والسكَّاكين وورق اللَّعِبْ
لكنَّنا نبقى إلى أن يصلَ التَّيارْ
إلى أن يُلامسَ قلبكِ”.
عباس بيضون، قصيدة صور
لا تبدو تلك المدينة التي طلعت من البحر مع فجر القرن العشرين لتكون مدينة مفتوحة على رياح المعاصرة والتحديث والتنوع الكوزموبوليتي، مدينة بورتسودان، حاضرة الشرق، وثغر السودان الباسم، لا تبدو تلك المدينة في أي يوم من ماضيها، الذي قال عنه مؤرخها (محمد صالح ضرار): “كانت نسبة المتعلمين فيها تعادل أرقى نسبة من نوعها في أي مدينة، وليس في ذلك شيء مما يدهش، لأن المدينة ولدت وسط العلم وفي عصر النور”، لا تبدو أبداً تلك المدينة كما أصبح عليه حالها اليوم، حيث يكاد جميع من في المدينة غير مُبالٍ بما يحدق بها من مخاطر حيال ما يقع على أحد مكوناتها الأهلية من شيطنة ونبذ يحار فيهما العقل، ويكاد لا يصدق تواطؤ مكوناتها في جملتهم على مثل ذلك الموقف الغريب والمعيب مما يجري لجزء من مكوناتها الأهلية وفي أحد أحيائها الجنوبية (حي دار النعيم) من حصار برسم الجيش، ومن استفزاز بعض أفراد ذلك الجيش لمواطنين في الحي، عبر أساليب عدائية، وطعن في الهوية الوطنية، يشتم منها أي مراقب سياسي لأوضاع المدينة (التي تخضع منذ عامين لموجات اقتتال أهلي مدبرة) أن ثمة ما يجري التحضير له لدفع مكون معين دفعاً إلى اتخاذ مواقف عدائية من الدولة، وصولاً إلى دفعه لحمل السلاح ضدها تحت ضغط الاستفزاز غير المقبول (وهو ما لا نرجو أن يحدث أبداً).
فأن تشهد المدينة موجات اقتتال أهلي متكررة، ثم لا نشهد من أعيانها ومثقفيها ونخبتها وعلمائها تداعياً ظاهراً وملحوظاً ومكثفاً إلى دعوات للصلح ومبادرات سلم جادة لحقن الدماء بين المكونات المتقاتلة، فذلك ما يستدعي استغراباً لا بد من معرفة جذوره، لأن هذا الموقف المعيب والصامت الذي تتواطأ عليه نخب المدينة اليوم، بحيث لا نرى من طرف تلك النخب أي اعتصامات حاشدة، ولا مواكب سلمية لإدانة ما يجري والدعوة إلى وقفه سيكون بالضرورة له سبب ما، في مكان ما.
فهل يمكن القول إن سبب ذلك التواطؤ الخفي هو تلك السردية التي يروج لها ما يسمى “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، وهو مكون سياسوي عنصري تقوم سرديته في عمومها، على أن ذلك المكون الذي تتم شيطنته (مكون بني عامر والحباب) هو مكون لا علاقة بشرق السودان عبر الطعن في وطنتيه التي تشهد لها أجزاء عزيزة من هذا الوطن في شرقه الأقصى بمنطقة جنوب طوكر وعقيق، وهي منطقة تبلغ مساحتها قرابة 5000 كيلومتر مربع؟
أم أن السبب يتمثل في أن مدينة بورتسودان تسكنها مكونات منكفئة على نفسها، وعن بعضها بعضاً، بحيث يصدق عليها القول: إنها أشبه بمكونات تعيش في جزر معزولة، ومن ثم لا ترى فيما يحدث من مخاطر الاقتتال الأهلي بين بعض جيرانها، خطراً وجودياً عليها؟
أم أن السبب يتصل بأن غالبية السكان الأصليين (البجا الناطقين بلغة البداويت) بسبب عزلة طبعت طبيعة حياتهم قروناً طويلة، بحيث أصبحوا معها لا يكادون يعرفون إلا أنفسهم، بالتالي ليس لديهم حتى مجرد استعداد للاعتراف بأن منطقة جنوب طوكر السودانية التي يسكن في غالبيتها الساحقة (بجا آخرون ناطقين بلغة التقراييت هم مكون بنو عامر والحباب) هي جزء من السودان أصلاً؟
أم أن ممارسات 30 سنة من تسييس الإدارة الأهلية (نظام القبائل) عبر إدخال نظام البشير لها كمكونات سياسية بديلة للأحزاب، جعل من خراب السياسة جزءاً من خراب الوطنية ذاتها؟
أم أن هناك لجنة أمنية في المدينة تسهر على إدارة الفتنة بين مكوناتها مع التركيز على شيطنة مكون بعينه من أجل ضرب الاستقرار في ولاية البحر الأحمر وتهيئة تلك المكونات بدفعها إلى حدود قصوى للاقتتال إلى درجة قد ينزلق فيها شرق السودان إلى نقطة اللا عودة؟
أم أن هناك في الخرطوم من بين مكوني سلطة المرحلة الانتقالية (العسكر والمدنيين) من يريد ذلك لحسابات سياسوية ضيقة؟ أم أن ما يحدث في مدينة بورتسودان هو جزء من إرادة بقايا نظام البشير وفلول الثورة المضادة لإعاقة الثورة وضرب الاستقرار السلمي في خاصرتها الرخوة: شرق السودان؟
أم أن ما يجري في المدينة هو تواطؤ يستجيب لأجندات خارجية لا تريد خيراً للاستقرار في شرق السودان ولا للسودان عامة؟
وفيما قد تتقاطع على خلفية هذه التساؤلات أجندات مختلفة، أو قد لا تتقاطع، يبدو صمت الناس في مدينة بورتسودان حيال ما يحاك من أجل ضرب سلمهم الأهلي واستقرارهم أكثر من مريب إلى درجة مربكة ومحيرة!
ثمة شيء مريب في الاجتماع السياسي لهذه المدينة ومكوناتها، شيء غير طبيعي، لكنه في تقديرنا هو مزيج تعيس من كل تلك الأسباب التي عددناها آنفاً، مزيج بلغت به درجة الشلل الإرادي عن فعل ما يتوجب عليه إلى حالة ترقى لأن تكون أشبه بالفضيحة.
فإذا كان مستحيلاً، اتهام مكون بني عامر والحباب في المدينة بأنه مكون غير سوداني (وحتى لو كان ذلك المكون برمته مكوناً غير سودانياً، فهل من مبرر لشيطنته والتواطؤ بالصمت فيما يمارس ضده من استفزازات)، فما الذي يمنع مكونات المدينة من أن تتضامن مع بعضها بعضاً وتنظم اعتصامات من أجل وقف العنف، والتنديد بالحصار الذي ضرب على الحي الذي تسكن فيها غالبية من هذا المكون (دار النعيم)، وهو مكون عرف تاريخياً بطبيعة مختلفة تماماً عن أن تكون كتلك الشيطنة التي يراد رسمها له، أي بأن يفعل أهل بورتسودان كما فعل المواطنون في ولايات دارفور باعتصاماتهم الشهيرة مثلاً ونجحوا في ذلك؟
وإذا كان وارداً بقوة أن مكونات مدينة بورتسودان من غير (البجا الناطقين بالبدواويت) قد تأثروا بتلك العزلة التي عادتهم من أولئك البجا، فجعلتهم غير معنيين بما يحدث بين بعض مكوناتها على هذا النحو الخطير، فهل يمكننا أن نعتبر ذلك، في حال الخطر المهدد للجميع، أمراً طبيعياً؟
أما أسوأ ما يمكن أن يكون وارداً في سبب إحجام مكونات المدينة عن القيام بواجب مسؤولية حماية السلم الأهلي والكف عن التواطؤ الصامت حيال شيطنة مكون في المدينة، فهو خوف تلك المكونات من الخطاب العنصري والتحشيدي الذي يسوق ما يسمى “المجلس الأعلى لنظارات البجا” (وهو مجلس في الحقيقة لا يمثل نظارات البجا).
في تقديرنا، إن التفسخ الذي ضرب الفضاء العام عبر تسييس الإخوان المسلمين لنظام القبائل منذ ثلاثين سنة، هو الذي يعكس اليوم هذا التفاعل العدمي والشلل الإرادي في ردود الفعل السلبية للمكونات الأهلية لمدينة بورتسودان على ما يحدث فيها، وهو ما قد يجعلنا أقرب إلى تأويل، خوف تلك المكونات من الخطاب التحشيدي لما يسمى “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، وشعاراته العنصرية التي يضخها باستمرار من أجل تصوير مكون بني عامر والحباب تصويراً يوشك أن ينفي عنهم هويتهم السودانية الأصلية.
وبالعودة قليلاً إلى الوراء (أيام نظام البشير) سنجد أن التواطؤ الذي مُورس ضد مكون بني عامر والحباب كان أكثر من واضح، فهذا المكون كان قد تضرر من الحرب التي جرت على أرضه التاريخية (جنوب طوكر – عقيق – قرورة) بين نظام البشير والمعارضة السودانية المسلحة عام 1997 المدعومة من دولة إريتريا التي جرى على أثرها تهجير نحو 60 ألفاً من سكان منطقة جنوب طوكر إلى بورتسودان، دون أن تتم حتى الآن إعادة توطينهم في مناطقهم التي هجروا منها عام 1979 بسبب الحرب، بل والأنكى من ذلك أنه حتى الآن ما زالت منطقة جنوب طوكر منذ حرب عام 1997 واقعة تحت حالة الطوارئ، ولا تزال مزروعة بالألغام، التي تودي بين حين وآخر بحياة البدو الأبرياء. وكان الوالي الأسبق لولاية البحر الأحمر في زمن نظام البشير محمد طاهر إيلا (الذي كان آخر رئيس للوزراء في آخر أيام البشير)، قد أقر تثبيت حالة الطوارئ في جنوب طوكر كما هي، إلى جانب الألغام المزروعة، كما كان يتصرف في الميزانية التي كانت تخصصها الدولة في عهده إلى ميناء عقيق (وهو ميناء يقع في جنوب طوكر)، ويحولها لصالح ميناء أوسيف (ميناء يقع في شمال بورتسودان) بطريقة كشفت عن عنصرية قبيحة وفاقعة، كما كشفت في الحقيقة عن تواطؤ في إهمال منطقة جنوب طوكر، وكأن هناك اتفاقاً من طرف الوالي الأسبق للبحر الأحمر محمد طاهر إيلا مع دولة إريتريا على جعل منطقة جنوب طوكر منطقة مهملة وغير قابلة للتنمية وإعادة توطين أهلها (على الرغم من أن ميناء عقيق، تاريخياً، كان أحد موانئ عهد البطالمة اليونانيين في مصر على ساحل البحر الأحمر إلى جانب ميناءي: برنيس في مصر، وعدوليس في إريتريا، فيما كان ميناء عقيق يسمى آنذاك ميناء بطليموس ثيرون).
هكذا، وفي ضوء هذه التحيزات العنصرية والاستهداف الممنهج لهذا المكون (بني عامر والحباب) منذ أيام نظام البشير، واستهداف أرضهم التاريخية بإشعال الحروب فيها وبالإهمال، سيتكشف لنا أن ما يجري اليوم من شيطنة لهذا المكون واستهداف استفزازه من طرف سياسات أمنية مدبرة، هو جزء من خطة لضرب الاستقرار في شرق السودان، وإعاقة مسار الثورة السودانية، التي لا يكاد كثير من نخبها في الخرطوم، مدركين لذلك الاستهداف بحق مكون يعتبر في الحقيقة من أهم عناصر الاستقرار في الإقليم الشرقي.
لقد وصف الناشط والاجتماعي والسياسي المعروف في شرق السودان خالد محمد نور بدقة متناهية ما تمارسه اللجنة الأمنية عبر نقاط ارتكاز قواتها في حي دار النعيم، حين قال، “هناك مسألة لا تحتمل التسويف ولا التأجيل ولا المماطلة: منطقة مكشوفة لا يتجاوز محيطها 500 متر… ما الصعوبة في تأمينها وفتح طريق المواصلات إلى حي دار النعيم؟ فأن تفرض طوقاً أمنياً على منطقة، وترفض، في الوقت نفسه، أن يقوم أهلها بحماية أنفسهم، ثم تترك تلك البؤرة، وهي على مرمى حجر من قواتك، نهباً للإجرام؟ فهذا عمل إجرامي مرفوض، لا نتحدث هنا عن حالات اقتتال أهلي، فما يحدث الآن هو عمل إجرامي لعصابات -يقصد وقوع أكثر من جريمة قتل في تلك المساحة بفعل عصابات النيقرز – قد تختلف دوافعه، وستنتعش سوق الجريمة هنا لضمان الإفلات من العقاب. إننا نتحدث عن بديهيات يعلمها أصغر فرد في الأجهزة الأمنية، وعواقب الانفلات في هذه المنطقة خطيرة جداً، وسيجر مجتمعات أخرى للصراع. على اللجنة الأمنية ووالي الولاية، إذا كانوا جادين، إيقاف ما يحدث، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين هذه المنطقة التي لا تتجاوز 500 متر وفتح طريق المواصلات إلى حي دار النعيم بأسرع ما يتيسر”.
بصيص أمل
وعلى الرغم من هذا الشلل الإرادي الغريب في تخاذل مجتمع مدينة بورتسودان ومكوناته، خاصة نُخبه، عن واجب القيام العمل باعتصامات وتظاهرات من أجل الضغط على اللجنة الأمنية للعمل الجاد على وقف ما يجري في المدينة من مسلسل موجات اقتتال منذ سنتين، فإن هناك أدواراً مقدرة، وإن كانت ضئيلة في حجمها كتظاهرة (المنبر النسوي بولاية البحر الأحمر)، وكذلك نشاط (حملة حماية الحق في الحياة) التي قدمت مبادرات وجهوداً مقدرة في تسليط الضوء على ما يحدث من حصار لحي دار النعيم، ودور اللجنة الأمنية في ذلك، وهي حملة مهمة ينشط فيها بعض الإعلاميين والمثقفين والكتاب من كل أنحاء السودان، كما ينشط فيها رموز كبار من رموز الثورة، مثل الأستاذ الصادق سمل (والد الشهيد عبدالرحمن)، والأستاذ المناضل جعفر خضر، وغيرهما.
وأخيراً، يمكن القول لرئيس الوزراء عبدالله حمدوك، وحكومته، ولأطراف العملية السلمية لاتفاق جوبا، ولقوى الحرية والتغيير ولمثقفين وإعلاميين سودانيين كبار (منهم من يعرف مدينة بورتسودان جيداً، ومن عاش ودرس فيها): إن ما يجري من شيطنة لمكون وطني أصيل في شرق السودان (مكون بني عامر والحباب) بحجج وشبهات يثيرها عنصريو ما يسمى “المجلس الأعلى لنظارات البجا” من خلال الطعن في وطنية هذا المكون الأصيل، ويكاد يتواطأ معها كثيرون في مجتمع مدينة بورتسودان بأسره، أمر خطير، وإنكم إذا ظللتم تتفرجون هكذا على ما يجري من موجات اقتتال أهلي في المدينة، واستفزاز بحق هذا المكون (حيث وصل الاستفزاز إلى درجة وضع علامات حمراء على شكل صليب في جدران منازل المنتمين لهذا المكون في بعض أحياء المدينة على سبيل التمييز العنصري والتلويح بالتهديد)، فإن صمتكم ذاك وأنتم تعرفون أصالة هذا المكون وحقوقه في الخريطة الجيوسياسية للسودان، سيكون بمثابة عار على قيم هذه الثورة، وعلى قيمه الوطنية!
ولتنشيط ذاكرة وضمير أولئك المثقفين والإعلاميين قليلاً، نقول: إن قضية بني عامر والحباب كمكون مستهدف في وطنيته بالشبهات، هي اليوم أشبه بقضية “دريفوس” في فرنسا، لكن لا إميل زولا لها، أيها المثقفون!
صحيفة السوداني