مقالات متنوعة

صديق البادي يكتب: الوطن بين الاستعمار شبه المباشر والأزمات الداخلية المباشرة

الكاتب الكبير الأستاذ محمد جلال كشك كتب ونشر في أواخر سبعينيات القرن الماضي (ودخلت الخيل الأزهر) وظل هذا العنوان راسخاً في الذاكرة وماكتبه ظل متغلغلاً في الوجدان إنفعالاً وتاثراً بما ورد فيه ونفس العنوان ينطبق على ما يجرى في السودان من تدخلات خارجية سافرة ووصابة أجنبية وحشر للأنوف في المسائل السيادية والشؤون الداخلية إقتصادية كانت أو سياسية أو غيرهما وعلي منوال ذلك العنوان يمكن القول (ودخل الاستعمار السودان) وبدأ يعود متسللاً عبر النوافذ بعد خروجه رسمياً بالباب في غرة يناير عام 1956م. ويجب عدم دفن الرؤوس في الرمال والتغابي عن الحقيقة المرة والتهرب منها وكل الدلائل المحسوسة الملموسة تؤكد أن الاستعمار غير المباشر أو شبه المباشر أخذ يجثم على صدر السودان .وفي مؤتمر رؤساء دول عدم الإنحياز الذي عقد بمدينة باندونق بأندونيسيا في شهر أغسطس عام 1955م والذي أشار إليه دكتور تاج السر الحسن في قصيدته (آسيا وإفريقيا) التي لحنها وأداها الفنان عبدالكريم الكابلي. وشارك في ذلك المؤتمر عدد من الرؤساء والزعماء من أبرزهم نهرو وتيتو وعبدالناصر وشوان لاي واسماعيل الأزهري قبل أربعة أشهر من إعلان استقلال السودان ورفع علمه الوطني على سارية القصر وكان الأزهري حينئذ رئيساً للوزراء في فترة الحكم الذاتي الإنتقالي. وقدم الأستاذ محمد حسنين هيكل وصفاً لما دار في ذلك المؤتمر في كتابه عبدالناصر والعالم وذكر أن البانديت جواهر لال نهرو عندما إنتصب بقامته المديدة ليلقي خطابه أخذ ينظر للأفق البعيد وران على القاعة صمت رهيب وقال للرؤساء المؤتمرين إن عدداً كبيراً من دول العالم الثالث قد نالت استقلالها ، وأن دولاً عديدة أخرى في إفريقيا وغيرها على مشارف نيل استقلالها وخروج المستعمر منها وربما يشعر الكثيرون بالزهو والفخر فرحة الإنتصار لخروج الاستعمار. ولكن نيل الاستقلال ليس نهاية المطاف ولكنه بداية المشوار الشاق الطويل في إرساء قواعد الحكم والبيت الداخلي والعدالة الاجتماعية والتفرغ للعمل والبناء والتعمير والتنمية ولكن لو حدثت صراعات حول السلطة والجاه واستقطابات أثنية وقبلية ولم يحدث تقدم للأمام بل حدث تقهقر للخلف فأن الاستعمار سيعود مرة أخرى عبر النوافذ بلا جيوش غازية فاتحة ولكنه سيعود بك في شكل استعمار إقتصادي واستعمار ثقافي …و ألخ مع استقطاب وتجنيد عملاء وأدوات يغدق عليهم المال والإمتيازات بسخاء ليكونوا طوع بنائه ويحركهم كيف يشاء لخدمة مصالحه وأغراضه . وإذا أخذنا بعض النماذج لما حدث في بعض الدول بعد نيلها استقلالها وفي كينيا مثلاً فأن قائد ثورة (الماوماو) التي كانت حاملة للسلاح ضد المستعمرين وأحد رموز مرحلة التحرر الوطني جومو كنياتا أصبح أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال وأبقى بتعاقدات على بعض الموظفين البريطانيين الذين تحتاج إليهم الحكومة لتستفيد من خبراتهم وقدراتهم في بعض المجالات لئلا يحدث نقص أو فراغ فيها ريثما يتم تأهيل كفاءات وطنية ليحلوا محلهم ولم يطرد بجرة قلم عدد من الذين كانوا يعملون في مجال الصادرات والواردات من البريطانيين وغيرهم من الخواجات لئلاً يحدث نقص في الأسواق في بعض الضرويات وتعامل معهم بلطف وذهب الرئيس جوموكنياتا مرة لحضور مؤتمر يشارك فيه الرؤساء المنضوية دولهم في (الكومنولث) ونزل والوفد المصاحب له بأحد الفنادق بلندن وتعامل معه مدير الفندق البريطاني معاملة فيها استعلاء من جانبه ونظرة دونية له بإعتباره زنجي ولم يقدر مكانته كرئيس دولة مما أدى لإشتباكهما بالأيدي وتم القبض على مدير الفندق وقدمت الملكة والقصر الملكي ورئيس الوزارء إعتذاراً للرئيس الإفريقي الزائر الذي أدرك أن الاستعلاء العرقي والعنصري متغلغل في نفوسهم مهما تعامل معهم بلطف…وإن السودان أكثر قطر في إفريقيا عانى من خبث الاستعمار وتدخل الخواجات وتحرش بعض الجيران كما يحدث الآن مع الجارة إثيوبيا حول الملء الثاني لسد النهضة بطريقة فيها عنجهية واستبداد مع إعتداءات الشفتة الأحباش وقطاع الطرق واللصوص على الفشقة . وعانى السودان من أكبر حرب استنزافية بين الشمال والجنوب في الفترة الممتدة بين عامي 1955م – 2005م وتخللتها فترة سلام بعد توقيع إتفاقية أديس أبابا إمتدت بين عامي 1972-1983م والحرب الاستنزافية بين الأشقاء في الشمال والجنوب فقدت فيها أرواحاً عزيرة كثيرة وأهدرت أموالاً طائلة وبددت طاقات وحديث تدمير وعطلت التنمية .وإتفاقية (نيفاشا) أوقفت الحرب الاستنزافية بين الشمال والجنوب ولكنها تركت قضية أبيي معلقة، والملاحق التابعة للإتقافية تركت جروحاً نازفة في المنطقتين والمؤسف أن توقيع الإتفاقية مع القادة الجنوبيبن لم يصحبها تنفيذ فوري لنقل الفرقتين الشماليتين التاسعة والعاشرة لوطنهم الأم السودان بل تم الإبقاء عليهما لتظلا تحت قيادة جيش الحركة الشعبية بالجنوب، وشنتا هجمات على وطنهما كما حدث في أبوكرشولا وغيرها… وبعد توقيع إتقافية نيفاشا ساهم الخواجات بخبث في إشعال فتنة دارفور التي إنطفأت نارها والحمد لله وخلاصة القول إن الأصابع الأجنبية كانت ومازلت تعمل بخبث ضد السودان . وإقتصاياً عانى السودان كثيراً ودفع الثمن غالياً بسبب الإملاءات والتدخلات ومحاولة فرض سياسات وتطبيق فاتورة صندوق النقد الدولي وشروط البنك الدولي والسودان ينوء كاهله بديون ثقيلة وجل الأرقام المعلنة هي عبارة عن أرباح مركبة وعقوبات سنوية للتأخر في التسديد وفي سبعينات القرن الماضي أخذت حكومة السودان من البرازيل قرضاً بمبلغ أربعة ملايين وخمسمائة ألف دولار لتسديد ما يليها في تسديد قيمة شراء بصات (أبورجيلة) وعندما طلبت الحكومة السابقة من البرازيل قبل عدة سنوات أن تقدمة لها قرضاً طالبتها أولاً بتسديد قرض بصات (أبورجيلة) تضاعف المبلغ عشرة مرات وأصبح خمسة وأربعين مليون دولار!!! والمؤكد أن أصل ديون السودان أقل من خمسة وعشرين في المائة من الأرقام المعلنة كما صرح بذلك أحد الخبراء العاملين سابقاً بوزارة المالية. لقد عانى السودان كثيراً وفي عدة عهود سلفت من السعي لفرض فاتورة صندق النقد الدولي وتطبيق سياسة البنك الدولي عليه أما في هذا العهد فلم يبق لتلك المؤسسات المالية والإقتصادية الدولية إلا أن تطالب بأن تمنح تفويضاً لتدير القطاع الإقتصادي بنفسها وتعيين خواجات للقيام بهذه المهمة علناً وليس من وراء ستار بـ(الريموت كنترول). لقد أعلن السيد رئيس الوزاء أنهم بذلوا جهداً كبيراً حتى رفعت أمريكا عقوباتها الإقتصادية عن السودان وجهده وإجتهاده حتى تحقق هذا الإنجاز يشكر عليه هو ومن معه. وذكر سيادته أنهم بذلوا جهداً كبيراً أزالوا به الموانع من التعاون مع المجتمع الدولي ويشكرون على ذلك ومع تقديرنا لجهدهم في هذا المجال إلا أن شجرة التعاون مع تلك الدول الغربية والمنظمات الدولية لازالت عجفاء عقيمة لم تمد ظلاً ولم تمنح ثمراً. والمعالجات الداخلية والعمل والإنتاج ينبغي أن تسبق إنتظار نوال وهبات الخواجات الذين يهتمون إهتماماً ملحوظاً بالسودان لا من أجل مصلحة مواطنيه ولكن طمعاً منهم في استغلال واستثمار موادره الهائلة الزراعية والنفطية والمعدنية ،ومن أجل مصالحهم والمؤسف أنهم لم يقدموا للسودان شيئاً يذكر في ظل أزماته الخانقة الحالية (وما حك ظهرك مثل ظفرك).

صحيفة الانتباهة