محمد عبد الماجد يكتب: لطفي بريص (قبطي) مدينة شندي (الجعلي)
(1)
رحل في الايام الماضية ونحن في اجازة العيد احد اعيان مدينة شندي وابرز اقباطها (لطفي بريص) الذي أسس مع شقيقه سمير مكتبة (العهد الجديد) في النصف الاول من ستينيات القرن الماضي وقد كان ذلك في زمن يستعصي فيه الحصول على الاخبار والمعرفة. اذ كانت مكتبة (لطفي وسمير) كما نطلق عليها هي السبيل الوحيد الذي يحصل عبره الناس في مدينة شندي وضواحيها على الاخبار والصحف والمجلات والأدوات المكتبية.
مكتبة (العهد الجديد) حقاً قدمت لنا عهداً جديداً – عندما احدثت رقياً وتطوراً في (ادواتنا المدرسية) وأتاحت لنا فرصة الاطلاع على المجلات العربية والألغاز – مجلة ماجد ومجلة سمير وميكي والصبيان وصباح ولغز المغامرون الخمسة والشياطين الـ 13 ورجل المستحيل عرفنا كل ذلك من خلال (العهد الجديد) عندما كنا صغاراً والمجلة واكتوبر وصباح الخير ومجلة العربي والدوحة عندما اصبحنا كباراً.
كنت وما زلت تواقاً للمجلات العربية مجلة الدوحة ومجلة العربي ومجلة المجلة قبل ان تتوقف – وصحيفة الشرق الاوسط اكثر من الصحف والمجلات المصرية – اكتوبر وصباح الخير وروزر يوسف وذلك لأن المجلات المصرية تقدم الثقافة (المصرية) بشكل سافر ومخابراتي وفيه شيء من السطحية والتبرج رغم عبقرياتهم الادبية عكس المجلات العربية غير المصرية والتي تقدم لنا ثقافتنا ونجد فيها انفسنا وتبعد عن الفجور الثقافي والأدب العنصري والأجندة الخفية.
مع كل العطاء السوداني الثقافي الكبير لا اذكر كاتباً سودانياً واحداً في الاصدارات المصرية المتعددة كما كان الحال في مجلة المجلة التي كان يكتب فيها اديبنا العالمي الطيب صالح في اعز صفحاتها وأكثرها اهميتها (نحو افق بعيد). وعمل الشاعر النور عثمان أبكر في مجلة الدوحة والروائي امير تاج السر الذي يكتب زاوية ثابتة في مجلة الدوحة.
لم اقرأ عن صلاح احمد ابراهيم في مجلة مصرية ولم اطالع دراسات علي المك الادبية في اصدارة مصرية – حتى معاوية محمد نور عبقري النقد الادبي عندما هاجر الى مصر تم استنزافه بصورة لم تحفظ له حقوقه الادبية – كما مكث محمد وردي في جمهورية مصر لمدة تقارب العشر سنوات لم ينتبه فيها الاعلام المصري عن عمد لهذه العبقرية الفنية النادرة وهو فنان افريقيا الاول.
مع كل الود الذي نحمله لمصر وشعبها والتقدير الذي يجده عندنا ادبه – إلّا ان العقلية المصرية تتعامل مع السودانيين بحساب (المصلحة) ولا يلتفت لنا الاخوة في شمال الوادي إلّا في (سد النهضة) وتلك الانساب السياسية ومشاركة (ستونا) المحدودة في السينما المصرية حيث درجوا على اظهار الشخصية السودانية في الافلام المصرية بذلك الكركتر غير الجميل والاستخفاف السخيف. غير ما نجده من تقدير وتعظيم ومساحة في الدول العربية الاخرى.
(2)
قبل الفضائيات وغوغل كانت مكتبة (العهد الجديد) تقوم بدور ثقافي كبير وهي كانت المصدر لغذاء العقل والروح والنفس – وقبل ذلك كانت مكتبة (العهد الجديد) وما زالت هي (مسرح) يلتقى فيه اهالي شندي ويتناقشون وهم جلوس حول المكتبة في انتظار (الصحف) في السياسة والرياضة والثقافة – ويتبادلون فيها اخبارهم الخاصة والاجتماعية.
ما زلت اذكر نقاشاتنا وجدلنا في (هلال مريخ) قبل وصول بص البراق او السهم الذهبي من الخرطوم حاملاً معه صحف اليوم.
كنا ندك الحصة الاخيرة في المدرسة من اجل ان لا تفوتنا مناقشات عمنا الطيب محمد خير وملين ومشاغبات ود الحسين والبشاري.
شندي منحتنا ذلك التنوع الثقافي الكبير – تعرف مدينة شندي على انها مدينة خاصة للجعليين – لكن اذا زرت مدينة شندي سوف تجد فيها حظوظ الاقباط والنوبة والشوايقة والمحس والزغاوة ، اعلى من حظوظ الجعليين انفسهم.
حتى ابناء جنوب السودان من دينكا ونوير وشلك قبل انفصال الجنوب كان اكثر تواجدهم وعيشهم في مدينة شندي.
القيادة العامة في شندي الفرقة الثالثة مشاة كانت تمثل تعايشاً سلمياً اخر – نجدهم في سينما شندي وفي مشرع شندي وفي المحطة والسوق والاستاد يجمع بينهم الحب والمودة.
في شندي يشتهر محل (حزقيال) للاقمشة في مربع واحد وابراهيم مسخرون ومحل (عم ميلاد) في سوق شندي ودكانة (عم نصحى) البصير الذي كان يداوى اصابات العظام في مربع واحد – ولا يوجد في مطاعم الفول اشهر من محل (ابو الزيك) للافوال بكل انواعها – فول ابوالزيك بدرجة (سمك) – وصيدلية شندي الجديدة لجوزيف، اضف لهذه المحلات مكتبة (العهد الجديد) للطفي وسمير– كل هذه المحلات اصحابها (اقباط) – وهم يعود لهم الفضل في احداث نهضة اقتصادية مبكرة في شندي.
حتى في مراحلنا التعليمية لا ننسى استاذ (اميل برسوم) الذي كان يدرسنا في مدرسة شندي الشمالية – وعلى ذلك قس في الطب والمحاماة.
اشهر اساتذة مدينة شندي استاذ (ابودرق) وهي اسرة شرقاوية، اسرة (استاذية) كاملة الدسم – كان والدهم معلماً شهيراً في المنطقة وسار على دربه ابناؤه نبيل واسامة ابودرق في الرياضيات واللغة الانجليزية توالياً.
شندي الاستاذ المخضرم صلاح محجوب محمد خير واستاذ (دينكا) حسب ما كان يطلق عليه طولاً وقامة… واستاذ النقاشي واستاذ ابوعبيدة واستاذ سيد رحمة الله عليه واستاذ السر مشعال الذي كان مسرحاً للكوميديا الراقية والسخرية الجميلة رحمة الله عليه.
شندي عثمان الشفيع وعلي ابراهيم اللحو والطيب عبدالله وحسين شندي واضيف لهم لاعب نادي ساردية السابق عبدالمحمود ابوشريعة فقد كان فناناً في المستطيل الاخضر لا يقل عنهم شيئاً… يطربنا كما يطربوننا.
حتى وردي ومحمود عبدالعزيز كانت شندي اهم محطات مسيرتهما الفنية.
في شندي قهوة (هبار) ولا ننسى قبل ذلك قهوة (ابوسبعة) ومطعم (ود بادقس) وفرن ود الزاكي وفرن الشاذلي ومحلات (الشايقي) وعطارة (التيمان) و(همام) وبقالة سراج الشيخ ودكانة الماحي موز وبقالة الدسمة وعوض الترزي والشفيع سمك وصيدلية (الامل) لود جاد امين وعيادة فحوصات دكتور عنان ودكتور الصيني والقاضي ابو شورة – كل هؤلاء الشخوص وهذه المحلات وغيرها تمثل ثقافات وروابط مختلفة في مدينة شندي وتقدم تشكيلة للتعايش الاجتماعي في مدينة شندي – هؤلاء الناس لا نعرف (قبيلتهم) – كما كنا لا نعرف ونحن في مدرجات استاد شندي قبيلة (المريود) و(اسمر) و (بلة) و (خميس) و (محمود حنوت) وهم يوزعون القفشات والفرح على مدرجات استاد شندي وخارجها.
لا اريد ان اتحدث عن مدينة شندي فهذا امر لا استطيع اليه سبيلاً – ولكن قصدت ان اقول ان الحديث عن لطفي يعني تلقائياً الحديث عن (شندي) – اقول دائماً عن الاخوان لطفي وسمير ان الاول (جعلي) قبطي والثاني (قبطي) جعلي.
هكذا هي شندي.
(3)
الذي كنا نعرفه من لطفي انه كان يتيح لنا قراءة الصحف وهي معروضة لأننا كنا لا نستطيع شراء اكثر من صحيفة ان تيسر لنا ذلك – لم نكن نتلصص لقراءة الصحف في المكتبة كنا نفعل ذلك بقوة عين – لأن لطفي وسمير سعداء بشغفنا هذا.
عرفت بعد رحيل لطفي انه كان يدعم الكثير من الاسر والطلاب غير القادرين بالأدوات المكتبية من حبرها وأقلامها وورقها ومذكراتها وكراريسها. وليس غريباً عليه ذلك فقد كانت (العهد الجديد) احدى دعوماتنا الثقافية الكبيرة.
مكتبة (العهد الجديد) من منارات وعلامات مدينة شندي البارزة – التى نشعر فيها بعظمة الانتماء لمدينة شندي.
(4)
بغم /
قلت كثيراً اذا اردت ان تميز أي شيء فانسبه الى شندي ..عندما تضيف لـ(المانجو) اسم شندي فتقول (منقة شندي) فذلك يعني ان الكلام انتهى– وكذا الحال عندما تقول (موز شندي) و (سمك شندي) – حتى (البصل) عندما تقرنه بشندي كأنك تجعل نسبه للتفاح…انت تقول (فُرّاد شندي) و(جناين شندي) ولا يعلو على ذلك.
ليس هناك فخر اعظم من ان تقول (أنا من شندي).
النيل ينحني عند (شندي) ويعرّبد (القطار) حتى الثمّالة كما الطفل عندما يدخل محطة شندي فرحاً بها.
انها شندي وكفى.
صحيفة الانتباهة