رسالة قمة ( الأضداد) الخليجية.. المصرية.. والتركية إلى السودانيين
تتسارع إيقاعات التحولات ، في العلاقات بين دول خليجية ، ودول بالمنطقة، كان بينها ما يشبه داء الضرائر، أي الشر، والصراع المحموم، ما يعني أن ( السلطة الإنتقالية ) ، وخصوصا الحكومة الانتقالية ( الثانية) والأحزاب، داخل السلطة وخارجها، في مسيس الحاجة إلى تأمل دلالات المستجدات.
أحدث الرسائل الحيوية، هذه الأيام، أطلقتها أجواء العراق، إذ جرت لقاءات مهمة، على هامش (قمة بغداد للتعاون والشراكة)، الأسبوع الماضي ( 28 أغسطس 2021)، وبعد سنوات من الخلاف الحاد، التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في بغداد أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، كما التقى نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة ، حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في اليوم نفسه الشيخ تميم.
اجتماع السيسي ومحمد بن راشد مع تميم ، يعكس تطورات في علاقات الدول الثلاث ، ويرسل رسائل، إلى جهات عدة، والسودان ليس بعيدا عنها .
قبل بغداد ، تبادلت الدوحة والقاهرة زيارات على مستوى وزيري الخارجية، أما العلاقات الإماراتية القطرية فان ايقاعها ما زال بطيئا ، لكنه بدأ يتحرك ، وبرز أهم مؤشر، في أول خطوة من نوعها، منذ سنوات، حينما زار مستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد الدوحة في 26 أغسطس 2021 والتقي أمير قطر.
هذا التواصل أطلقته قمة ( العلا) الخليجية ،الحادية والأربعين، في الخامس من يناير 2021 بالسعودية ، وكانت مصر وقعت على بيانها، إيذانا بفتح صفحة جديدة في علاقات الدول الأربع ( السعودية ومصر والإمارات والبحرين) من جهة، وقطر من جهة أخرى، لكن يُلاحظ أن التواصل البحريني القطري ما زال متعثرا، ويبدو أنه يحتاج إلى تحرك من المنامة، كما فعلت الإمارات.
تغريدة الشيخ محمد بن راشد في حسابه على تويتر، بعد لقائه تميم تعكس رسالة حيوية، وتحتاج ( السلطة الانتقالية) بالسودان إلى تأملها، إذ قال ( الأمير تميم شقيق وصديق والشعب القطري قرابة وصهر، والمصير الخليجي واحد، كان وسيبقى، حفظ الله شعوبنا، وأدام أمنها واستقرارها ورخاءها).
السعودية لعبت وتلعب دورا إيجابيا في التهدئة بين الدوحة والإمارات ، وبين القاهرة والدوحة، ما يؤكد أن قمة ( العلا) أطلقت صافرة التلاقي في المنطقة، و كانت قطر ساهمت في انجاحه القمة ، بمشاركة أميرها ، وكنت كتبت في الخامس من يناير 2021 في مقال بعنوان ( عناق تميم ومحمد بن سلمان.. رسالة دافئة وساخنة) أن القمة نجحت قبل انعقادها بإعلان مشاركة تميم.
وجاءت الحفاوة اللافتة التي أستقبل بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الشيخ تميم ،بعد فترة ( حصار) و( مقاطعة) ، لترسل رسائل إلى الداخل والخارج ، وبدوره بادله تميم الروح نفسها ، فزار السعودية للمرة الثانية في 11 مايو 2021 بعد قمة ( العلا)، وهاهي زيارة وزير الداخلية السعودي الأمير عبد العزيز بن سعود بن نايف إلى قطر،السبت (4 سبتمبر 2021) تؤكد مستوى التشاور والتفاهمات.
أهم دليل أطًل في 25 أغسطس الماضي( 2021) ، إذ جرى توقيع ( البروتوكول المعدل لمحضر إنشاء مجلس التنسيق السعودي القطري) ، هذا المجلس كان تأسس منذ سنوات عدة ، قبل تجميد أعماله تحت تأثير الخلافات السياسية.
الجديد أن ( الأمير تميم والأمير محمد بن سلمان يرأسان مجلس التنسيق)، وأهدافه ثلاثة، هي (الدفع بالعلاقات الثنائية وشراكة البلدين إلى آفاق أرحب) و( المساهمة في تحقيق رؤية قطر 2030 ورؤية المملكة 2030) و( تلبية تطلعات قيادة البلدين لما يحقق مصالح شعبيهما) و أرى أن مجلس التنسيق سيحقق منافع كبيرة للبلدين والشعبين، إذا تم تنفيذ مشاريعه الطموحة.
قراءة دروس العلاقات بين دول خليجية مهمة للسودانيين…
عايشت هناك أحداثا ساخنة، فالعلاقات بين السعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة وقطر من جهة أخرى شهدت أزمات صعبة منذ يونيو 1995 وتم تجاوزها، ولست بصدد تحليل تفاعلاتها الآن ، و بينها أزمة سحب سفراء الرياض وأبو ظبي والمنامة بقرار جماعي، من الدوحة في الخامس من مارس2014، ثم جرى طي ملفها.
السعودية بوزنها ودورها الريادي في المنطقة تقود دوما مواكب المصالحة، مثلما تقود قرار (المقاطعة ) …
أذكر أن الرياض هي أول من أنهى أزمة سحب السفراء الثلاثة بإعادة سفيرها إلى الدوحة الأستاذ عبد الله بن عبد العزيز العيفان، ثم عاد سفير البحرين الأستاذ وحيد بن مبارك سيار، وكنت انفردت بخبر نشرته ( الحياة) اللندنية وبثته إذاعة مونت كارلو الدولية عن ترشيح الإمارات صالح بن محمد العامري سفيرا جديدا لدى الدوحة، وأن قطر قبلت الترشيح، وكان ذلك مهما لأنه استكمل حلقات المصالحة.
أزمة السفراء التي استمرت ثمانية أشهر انتهت بوساطة قادها صاحب المبادرات التاريخية ، أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد، ومهدت لقمة خليجية عقدت بالدوحة في التاسع من ديسمبر 2014.
في اطار المستجدات بالمنطقة جرت مياه دافئة تحت جسر العلاقة السعودية التركية، كشفتها اتصالات هاتفية أجراها الرئيس رجب طيب أردوغان بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، كان أولها في 16 يوليو الماضي ( 2021)، ويُعتقد بأن دبلوماسية قطر تُفيد السعودية بدعم جسور تواصلها مع تركيا حليفة قطر.
أما عودة الدفء للعلاقات المصرية القطرية، بعد حروب إعلامية وسياسية واقتصادية وغيرها، فقد شكلت تطورا مهما ، فهناك الكثير من المصالح المشتركة، والمأمول أن يساهم لقاء القيادتين في حلحلة مشكلات معقدة تنامت خلال السنوات الماضية، و هاهي مصر ترى أن لقاء السيسي مع تميم يعكس ( خطوات متبادلة بهدف استئناف مختلف آليات التعاون الثنائي، اتساقا مع ما يشهده مسار العلاقات المصرية القطرية من تقدم في إطار ما نص عليه ” بيان العلا”)، وهذه رؤية إيجابية.
لقاءات بغداد تزامنت مع استمرار مساع عراقية نجحت في فتح قنوات تواصل بين السعودية وإيران ، كما تزامنت المستجدات مع حدث لافت، إذ اتصل هاتفيا ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد ، للمرة الأولى منذ سنوات ، بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في أغسطس الماضي ( 2021)، بعد حملات متبادلة وضارية، وقالت أبو ظبي إن الإتصال تناول (تعزيز وتطوير العلاقات الثنائية، وجرى بحث ملفات إقليمية ودولية).
في سياق المُتغيرات، لعل أجمل وصف لقمة ( بغداد للتعاون والشراكة) جاء على لسان وزير الخارجية العراقي السيد/ فؤاد حسين الذي رأى أنها (قمة الأضداد) ،و أعتبرها ( حدثا تاريخيا) لأن (بغداد استطاعت أن تجمع دولا كانت بينها مشكلات كثيرة).
وزير الخارجية العراقي قال بشأن الاتصالات السعودية الإيرانية ودور بلاده إن (اللقاءات السعودية الإيرانية مستمرة، وهي بدأت في بغداد واستمرت، وستستمر، فهمنا من الطرفين أن لديهما رغبة للوصول لنتائج إيجابية، لحل مشاكل عالقة بين البلدين).
العراق الذي تعرض خلال السنوات الماضية وما زال لتدخلات خارجية سلبية في شؤونه الداخلية ، وعانى من تدهور الأوضاع الأمنية والإقتصادية والسياسية، كسب دعما سياسيا واقتصاديا وأمنيا ، إذ أعلنت الدول التسع، المُشاركة في القمة، وهي السعودية ومصر وقطر والكويت والإمارات الأردن وتركيا وايران وفرنسا أنها (تدعم أمن العراق واستقراره واقتصاده).
تفاعلات قمة ( الأضداد) في بغداد، تدعو إلى إعادة بناء علاقات سودانية متوازنة مع دول المنطقة والعالم، بعيدا عن السقوط في وحل المحاور.
تعلمت من تجربتي الصحافية في قطر ، ثلاثين عاما، ومن تجربة عملي مستشارا إعلاميا للأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي الأستاذ عبد الرحمن بن حمد العطية – وكانت فترة قيادته الأمانة العامة لدول لمجلس من أزهى الفترات – أن لا خيار لأهل الخليج حكاما ومحكومين إلا خيار التلاقي، تحت ضغط التاريخ والجغرافيا، وضغوط دولية، خصوصا من واشنطن.
لهذا دعوت ( السلطة الإنتقالية) في السودان في وقت سابق ، إلى انتهاج سياسة متوازنة مع دول الخليج الست، من دون استثناء، خصوصا أن هناك وجودا كبيرا للمغتربين السودانيين، يعود عليهم وأسرهم والوطن بمنافع كثيرة.
كتبت في وقت سابق ( صدى الوجع السوداني يُسمع أولا في الخليج) و ( لماذا تتجاهلون الدوحة ) و ( الخرطوم والدوحة: هل تفتح دبلوماسية العون الإنساني جسور تواصل بين الخرطوم والدوحة) وقبل ذلك كتبت (الدول الأربع وقطر: مصالحة مرتقبة ورابحون وخاسرون) وفي عام 2019 كتبت مقالا بعنوان ( الرياضيون الخليجيون قادمون إلى الدوحة تمهيدا للسياسيين) لألفت نظر من يهمهم الأمر، كي لا يخسر السودان توازنه .
أخيرا، بعد المصالحة الخليجية، زار نائب رئيس مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو ( حميدتي) الدوحة في يناير الماضي ( 2021)، ثم زارها رئيس المجلس الفريق عبد الفتاح البرهان في أبريل من العام الحالي ، ثم زارتها وزيرة الخارجية الدكتورة مريم الصادق المهدي لحضور اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب بشأن سد النهضة في يونيو الماضي ( 2021) .
هذه خطوات إيجابية، لكنها متأخرة ونتاج مستجدات خليجية، وسودانية، و لا تضرب على وتر استقلالية القرار السوداني، لأنها جاءت بعد قرار رُباعي أنهى الأزمة في الخليج ،و كشف في الوقت نفسه عدم التوازن في السياسة الخارجية السودانية، وتعدد مصادر إدارتها، ما ألحق الضرر بالسودان وثورته، ما يستوجب وضع استراتيجية للشؤون الخارجية، مُتفق عليها.
في مقدور السودان أن يتحول إلى ساحة جذب لدول المنطقة والعالم ، سياسيا واقتصاديا وثقافيا ، وليس ساحة صراع لتصفية حسابات هذا الطرف أو ذاك.
وقتها سيأتي ( الأضداد) إلى الخرطوم كما حدث في بغداد 2021، وكما حدث في الخرطوم في العام 1967 حينما التقى الراحلان الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز والرئيس المصري جمال عبد الناصر، وتصالحا في منزل السياسي الحصيف والمفكر محمد أحمد محجوب رئيس وزراء السودان، على هامش قمة عربية.
برقية: الثورة، الشعبية، السلمية، السودانية، رفعت شعار الإنفتاح ، على دول العالم ، بعيدا عن السقوط في وحل المحاور.
صحيفة التحرير