محمد جميل احمد يكتب السودان… تقلبات المرحلة الانتقالية
إعادة تأسيس الشراكة بين العسكر والمدنيين تحتاج إلى حلول وضمانات ذات طبيعة دولية وإقليمية
حين سقط نظام عمر البشير عام 2019 بعد ثلاثين سنة من خلال ثورة شعب قرر إسقاطه، بدا واضحاً أن شعار الثورة، آنذاك، الذي تمثل في جملة تحدٍّ بليغة عبرت بدقة عن اليأس المطلق للشعب السوداني من نظام الإخوان المسلمين، حين هتف الثوار بشعار “الليلة تسقط بس.. رص العساكر رص” في مواجهة مباشرة للبشير بأنه قد حان وقت السقوط حتى ولو واجه الشعب ببنادق العسكر صفاً واحداً.
وعقب سقوط النظام ظهرت قوى إعلان الحرية والتغيير كجبهة لأحزاب معارضة ضمت إلى جانب الأحزاب، حركات مسلحة ومنظمات مجتمع مدني. وبطبيعة الحال بما أن الشعب هو رافعة الثورة فيما الأحزاب هي رافعة السياسة فقد كانت الفرصة التي أتيحت لتلك المنظومة السياسية (قوى الحرية والتغيير) بعد سقوط النظام من أندر الفرص التي كان يمكن أن تشكل لحظة تاريخية فارقة لجهة الشروع في مهام شاقة حازمة وبصيرة بمآلات ومصائر الأيام الصعبة المقبلة للمرحلة الانتقالية.
وقد كان في كل من مآلات الوضع في ليبيا واليمن وسوريا نموذج لدليل إرشادي نادر أتاحته الظروف لقوى الحرية والتغيير، كتجارب مرة للاستفادة منها في الاكتراث والجدية التي تتطلبها إدارة مرحلة انتقالية في دولة كالسودان، على أثر سقوط نظام شمولي من تلك النظم التي تسعى إلى تغيير طبيعة البشر والأشياء لشدة قسوتها وتطاول أمدها لثلاثين عاماً!
لكن، مع الأسف وقع المحذور، إذ بدت تلك المنظومة السياسية لقوى الحرية والتغيير بعد توقيع الاتفاق التاريخي في 17 أغسطس (آب) 2019 الذي تضمّن إعلاناً سياسياً ودستورياً لقيادة مرحلة شراكة جديدة بين العسكر والمدنيين، كما لو أنها تحالف تولى السلطة بعد انتخابات سهلة في بلد أوروبي الأشياء فيه كلها في مكانها اللائق بها!
كان الجميع تقريباً في تحالف قوى الحرية والتغيير يضمر وعياً مفاده: أن الأيام الصعبة انتهت بسقوط النظام، وأن أيام ما بعد سقوط النظام هي الأسهل، فيما كانوا يرون بأم أعينهم من قبل، مصائر كالوضع في ليبيا المجاورة مثلاً، وفيما كانوا مدركين تماماً إلى أي مدى كان نظام مثل الإخوان المسلمين في السودان قد أمعن في تدمير المجتمع السوداني وسمم حياته على نحو خطير!
هل يمكن القول إن تحديات خراب ثلاثين سنة كانت أكبر بكثير من الاستجابات التي رأينا مدى تواضعها في ممارسات أداء العمل السياسي في السلطة الانتقالية من طرف قوى الحرية والتغيير؟ أم أن أي تحول لأي جبهة سياسية من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة ستبرز معه خلافات وتناقضات لا بد منها على السطح؟
أم أن التجريف الذي لحق بالبنية السياسية للعمل الحزبي على يد نظام الإخوان المسلمين، وتغيير قواعد اللعبة الحزبية السياسية ذاتها طوال ثلاثين عاماً أثر كذلك في مردود العمل السياسي المتواضع لقوى الحرية والتغيير في السنتين الماضيتين؟
أم أنه، وفقاً للرأي الذي يقول: إن ما حدث في 11 أبريل (نيسان) 2019 بخلع البشير كان في الحقيقة، نصف ثورة ونصف انقلاب، بالتالي ستشكّل شراكة الجيش الذي أصابه ما أصاب الحياة العامة في عهد حكم نظام الإخوان المسلمين، مع قوى الثورة الجديدة في الحكم إشكالاً في المرحلة المقبلة؟
كل تلك التساؤلات وغيرها هي تساؤلات مشروعة، وتحتاج الإجابة فيها إلى فحص الأسباب الذاتية والموضوعية لتحديات طبيعة المرحلة الانتقالية، لكن في الوقت ذاته؛ إذا رأينا اختلالات غير مقبولة في تنفيذ آجال ووعود جرى الاتفاق عليها في الوثيقة الدستورية، ولم يتم تنفيذها بعد مرور ثلثي المرحلة الانتقالية (سنتان)، على الرغم من إمكانيته، كتكوين المجلس التشريعي، والمحكمة الدستورية، والمفوضيات المهمة، فهل يمكننا أن نعتبر ذلك جزءاً من الذي يمكن السكوت عنه حتى بعد مرور سنتين على قيام حكومة الثورة؟
في مثل هذه المؤشرات سندرك تماماً إلى أي مدى كانت قوى الحرية والتغيير تعيد قراءة الكتاب القديم ذاته، الذي أفشلت قراءته كلاً من ثورتي أكتوبر (تشرين الأول) 1964 وأبريل (نيسان) 1985، بالتالي لم يكن الجميع منتبهاً إلى أن أي تراخٍ في الحزم الذي كان ينبغي أن تتحلى به القوى الثورية الجديدة بعد أن سلمها الشعب مهام إدارة المرحلة الانتقالية، سيكون له ما بعده في مؤشرات نشاط الثورة المضادة، وهذا ما حدث بالضبط.
فمثلاً حين استجاب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لضغوط المجلس الأعلى لنظارات البجا بقيادة الناظر ترك في العام الماضي بإقالة والي كسلا السابق صالح عمار في 14 أكتوبر 2020 (لم تكن الأسباب التي جرى بموجبها إقالة والي كسلا السابق صالح عمار أسباباً موضوعية، إنما كانت عنصرية محضة)، فها هو ذا المجلس الأعلى لنظارات البجا يطالب اليوم باستقالة رئيس وزراء السودان عبد الله حمدوك ذاته، بعد عام من مطالبة المجلس بإقالة والي كسلا السابق صالح عمار!
السودان بلاد الاختلاف
لقد كانت الهشاشة المكشوفة في تجربة قوى الحرية والتغيير تنعكس باضطراد في ازدياد منسوب حراك الثورة المضادة، التي يعتقد ربما أن لديها علاقة ما خفية بجزء من المكون العسكري في السلطة الانتقالية، التي كان مسرحها الأكبر منطقة شرق السودان، حتى وصل الأمر بالمجلس الأعلى لنظارات البجا الذي يقوده الناظر ترك في شرق السودان إلى إغلاق مرافق قومية (يعتبر إغلاقها عملاً يجرمه الدستور) كإغلاق الطريق القومي الواصل بين ميناء السودان الرئيس في مدينة بورتسودان والعاصمة الخرطوم، إلى جانب إغلاق ميناء بورتسودان ذاته مع ميناء سواكن للمسافرين، وميناءي بشائر 1 و2 لتصدير بترول دولة الجنوب، وأخيراً تحذير الناظر ترك بأنه في حال عدم الاستجابة لمطالب المجلس الأعلى من طرف المركز سيعلن “إعلان حكومة شرق السودان” خلال عشرة أيام!
وعلى الرغم من التوتر الكبير بين المدنيين والعسكريين الذي طفا على السطح بصورة حادة خلال الأسبوع الماضي، مما أدى إلى مطالبة قوى الحرية والتغيير الشعب بالخروج إلى الشوارع، إثر تصريحات مستفزة من طرف قادة المكون العسكري كالفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي”، حيث تزامن خروج جماهير الشعب السوداني بمئات الآلاف يوم الخميس الماضي في العاصمة والمدن دعماً للقوى المدنية، مع جلسة رفيعة المستوى في الجمعية العامة للأمم المتحدة لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان وحمايته، إلا أنه لا تزال هناك عقدة تعيق باستمرار هذه الشراكة التي ظلت متعثرة لسنتين.
ويبدو أن ما سرع من بروز تلك الحدة في العلاقة اقتراب موعد تسليم العسكريين في مجلس السيادة رئاسة النصف الثاني من المرحلة الانتقالية إلى المدنيين، وتبدو مؤشرات عناد العسكريين في هذا جلية في جملة من التحركات التي تؤشر دلالاتها للأسف إلى أن ثمة حراكاً خفياً يوعز به العسكريون لقوى سياسية وقبائل وبعض الحركات التي وقعت اتفاق جوبا للسلام.
فحين يذهب الفريق شمس الدين الكباشي عضو مجلس السيادة لنزع فتيل الاحتقان بشرق السودان وبتفاوض مع الناظر ترك ليعود منه باستعادة ضخ أنبوب بترول دولة الجنوب فقط، بينما الأدوية المنقذة لحياة مئات الآلاف من السودانيين المرضى لا تزال محتجزةً في ميناء بورتسودان بأمر الإغلاق الذي شمل كل شاحنات النقل المتجهة من الميناء إلى الخرطوم، سندرك تماماً طبيعة اللعبة الخطرة التي يخوضها المكون العسكري لجهة عدم المبالاة الرهيبة في الذهاب بعيداً إلى الحد الذي يهدد وحدة السودان وأمنه مقابل تسجيل مواقف ضد قوى الحرية والتغيير.
هذا التطور الخطير يكشف لنا كم هو معقد مأزق قادة المكون العسكري في هذه الشراكة، ما سيعني كذلك أن شروط إعادة تأسيس الشراكة بين العسكر والمدنيين تحتاج إلى حلول وضمانات ذات طبيعة دولية وإقليمية ربما تظهر نتائجها في الزيارة التي تمت للخرطوم من قبل جيفري فيلتمان، المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي، إلى جانب مبعوث فرنسا إلى السودان، وكذلك جهود رئيس البعثة الأممية في السودان (يونيتامس) فولكر بيرتس الذي عقد لقاءات مكثفة بين الفريقين.
ما يمكن أن نحدس به سيكون رهيناً بطبيعة المشهد السياسي في الأيام القليلة المقبلة، التي نعتقد أنها ستؤشر إلى ما إذا كانت هناك ضغوط حقيقية جرى التوصل فيها إلى تفاهمات نهائية حول عقدة العسكر من طرف القوى الدولية أم لا؟
لقد بدت خطة العسكر في ألعابهم البهلوانية مكشوفةً من خلال تصريحات الناظر محمد الأمين ترك، الذي غالباً ما تحمل تصريحاته دلالات صريحة تعكس تحالفه الواضح معهم، حتى يمكننا القول إنه من السهولة بمكان معرفة ميول العسكر واتجاهاتهم من خلال تصريحات الناظر محمد الأمين ترك رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا.
بين أداءين محتملين في الأيام المقبلة، أداء قوى الحرية والتغيير، خصوصاً بعد إعلانها الذي أعادت فيها توحد مكوناتها يوم 9 سبتمبر (أيلول) الماضي، بما يشكل احتمالاً للقطيعة مع طبيعة أدائها السابق الهزيل، وأداء المكون العسكري الذي ستكون مؤشراته واضحة في مجريات الأحداث والتصريحات السياسية التي يتبرع بها آخرون نيابةً عنهم، سنعرف إلى أين تتجه رياح المرحلة الانتقالية العاصفة التي يمر بها السودان اليوم.
صحيفة السوداني