مقالات متنوعة

السودان .. محاولة الانقلاب والقابلية للانقلاب


على الرغم من أن ثورة ديسمبر (2018) التي خرجت على نظام الرئيس السوداني المخلوع، عمر البشير، أخذت تؤسّس لحكم مدني، بدأ مع اتفاق تقاسم السلطة بين العسكريين والمدنيين في فترة انتقالية تنتهي بتسلم المدنيين الحكم، فإنّ الفترة التي تلت المحاولة الانقلابية الفاشلة في السودان، والتي وقعت في 21 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، أظهرت أن البلاد بقيت حبلى بأسباب الانقلاب. وظهر في إثر المحاولة توترٌ حادٌ بين مكوني مجلس السيادة، العسكري والمدني، تبعه كلام رئيس المجلس، عبد الفتاح البرهان، عن وصاية الجيش على البلاد، ليزيد من حدّته، وليدلّ على فكر المكون العسكري الاستئثاري، وعلى هشاشة أرضية الحكم المدني، وليؤكّد أن خيار الانقلاب هو الانتقال الوحيد الذي يعرفه العسكر في هذا البلد.

وفي جردةٍ سريعةٍ لما تحقَّق بعد توقيع الوثيقة الدستورية التي أسّست لقيام الحكم الحالي في السودان، والمتمثل بمجلس السيادة الذي يتقاسمه المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير، والذين انضمت إليهم في ما بعد أطراف العملية السلمية، يتبيّن أن كثيراً من مهمات الأشهر الستة الأولى من الفترة الانتقالية التي نصّت عليها الوثيقة لم يتحقق. وعند ملاحظة أن هذه المهمات الملحة هي: إحلال السلام وإنهاء الحرب ومعالجة جذور المشكلات التي أدّت إلى اندلاعها، والتحقيق في مجزرة فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة (يونيو/ حزيران 2019)، وتشكيل المجلس التشريعي، نجد أنها ملفاتٌ ليس من مصلحة المكون العسكري البتّ فيها، لتكون له اليد العليا حين ينتج عن تأجيلها توترٌ وزعزعة للاستقرار.

خيار الانقلاب هو الانتقال الوحيد الذي يعرفه العسكر في السودان وغيره من البلاد العربية

وتفاقم التوتر بسبب المناخ الذي خلفته محاولة الانقلاب، واتّهام المدنيين قيادة الجيش بالسيولة الأمنية التي مكَّنت لهذه المحاولة، وردّة فعل المكون العسكري العنيفة وغير المتوقعة على اتهامهم، ما يُبيّن مقدار التوتر الذي يحكم العلاقة بين طرفي الحكم. وظهر التوتر عبر الانغلاق السياسي الذي شاب الفترة الماضية، مع اقتراب تسليم قيادة المرحلة الانتقالية للمدنيين تنفيذاً لأحكام الوثيقة الدستورية. وتقود هذه الوقائع، وكذلك المحاولة الانقلابية، وما تكشّف بعدها من نيات العسكريين، إلى استنتاج أن خطر قيام محاولات انقلابية جديدة يبقى ماثلاً بسبب عوامل كثيرة، توضّحت وتعزّزت خلال هذه الفترة.

من هذه العوامل عدم إصلاح المؤسّسة العسكرية، عبر إعادة هيكلة القوات المسلحة، تنفيذاً لما جاء في الوثيقة الدستورية، وما نصّ عليه بند إصلاح أجهزة الدولة. ويتضمّن الإصلاح حل المليشيات المسلحة الملحقة بالجيش، أو إدماج عناصرها فيه عبر إعادة تأهيلهم. ويؤدّي عدم إصلاح هذه المؤسسة إلى إبقاء الجيش موضع تجاذب المليشيات، علاوةً على ضياع القرار، واستمرار ولاء عناصره لأشخاص، بدلاً من ولائهم للوطن ومؤسّساته، ما يجعل مسألة تسييرهم واستخدامهم في معارك جانبية أمراً هيّناً.

واستجدّ عاملٌ آخر، هو سحب قوات الحماية عن مقارّ لجنة تفكيك التمكين، والذي يعدّ ذا دلالة كبيرة وواضحة عن نيات المكوّن العسكري وقف مسار التغيير من جهة، ومن جهة أخرى، دلالة على استمرار ولائه لإرث نظام البشير، واستمرار سيطرة عقلية البشير الانقلابية والإقصائية على هذا المكوّن. كذلك فإن له الدلالة الأهم، إعطاء الإيحاء بإمكانية الانقضاض على ما حقّقته الثورة في أي لحظة، وهو تهديد مبطّن للمكون المدني، لتدجينه وتمكين المكوّن العسكري منه. وإذ يعد سحب الحماية قراراً غير معلن، ربما اتخذه المكون العسكري، لينسحب بموجبه من عملية تفكيك ركائز النظام القديم في أجهزة الدولة والقوات العسكرية.

من العوامل التي تساعد على حدوث انقلاب، عدم ولاء الجيش للشعب، وكذلك الريبة والفرقة بين الجيش وأبناء الشعب والموروثة من زمن الدكتاتوريات السابقة

ومن هنا، مما يجعل أيضاً المحاولات الانقلابية في السودان قائمة عدم تقديم من قاموا بالمحاولة الانقلابية أخيرا إلى القضاء ومحاسبتهم، بل، بدلاً من ذلك، برز تهاون الأجهزة الأمنية مع المتهمين. وهو أمرٌ يشجّع الفلول أو أي فصيل عسكري أو حتى مدني على الانقلاب. وقد ازدادت بعد إطاحة البشير الحوادث الأمنية التي شهدت عدم تقديم المسؤولين عنها إلى القضاء، ومنها محاولتا انقلاب أعلن عنهما المجلس العسكري سنة 2019. ومن تلك الحوادث أيضاً محاولة اغتيال رئيس مجلس الوزراء، عبد الله حمدوك، في مارس/ آذار 2020، وقبلها التهاون في التحقيق في مجزرة فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، وهي أمور تعطي انطباعاً بسهولة إفلات المتربّصين بأمن البلاد والمغامرين العسكريين من العقاب.

ومن الأمور التي فتحت شهية العسكر على الانقلاب، في السنوات الأخيرة، تراخي منظمة الاتحاد الأفريقي ودوله تجاه انقلابات كهذه، وهي التي درجت على تعليق عضوية أي دولةٍ يحدث فيها انقلاب. وقد اتبعت ذلك من أجل الحدّ من هذه الظاهرة التي وسمت القارة الأفريقية. وظهر هذا التراخي مع إعادة عضوية نظام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في الاتحاد، عبر صفقةٍ غير معلنة أبرمها مع إثيوبيا لإعادة عضوية بلاده إلى الاتحاد، مقابل توقيعه اتفاق المبادئ الثلاثي (مع السودان) الخاص بسد النهضة، والذي شرَّع لأديس أبابا البدء بتشييده، وتلقّي القروض الدولية للمساعدة في البناء.

ومن العوامل التي تشجّع على الانقلاب استمرار التقاعس عن إحلال السلام في ربوع البلاد، على الرغم من أن هذا كان من البنود التي نصّت الوثيقة الدستورية على تحقيقه خلال ستة أشهر من تاريخ توقيع الوثيقة. وعلى الرغم من الشروع في توقيع اتفاقياتٍ مع حركات التمرّد في الأقاليم. وربما يكون هذا التقاعس مقصوداً؛ إذ إن أي حادثٍ أمنيٍّ سيكون دافعاً للمكوّن العسكري لفرض قانون الطوارئ، وبالتالي يعطيه الحرية في تقويض الحريات، وربما في كفّ يد المكون المدني عن الحكم، تحت ذريعة مسؤوليته عن تسيبٍ أدّى إلى هذا الحادث، أي حدوث انقلابٍ تحت رداء “الطوارئ”. ومن هنا كانت ردّة فعل المكون العسكري شرسة، وخصوصاً نائب رئيس المجلس العسكري، الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حين ردَّ على اتهام العسكر بالتسبّب بذلك التسيب الأمني الذي أدّى إلى حدوث المحاولة الانقلابية، فهو يسعى إلى إلقاء اللوم كله على المدنيين، من دون أن يعترف بمسؤولية العسكر.

في كل انقلابٍ أو محاولة الانقلاب، يبدأ العسكر بتوجيه الإدانات والانتقادات للمدنيين أنهم لم يكونوا على قدر المسؤولية، وأنهم أداروا ظهورهم لمشكلات البلاد

ومن العوامل التي تساعد على حدوث انقلاب، عدم ولاء الجيش للشعب، وكذلك الريبة والفرقة بين الجيش وأبناء الشعب والموروثة من زمن الدكتاتوريات السابقة، والتي ظهرت جليةً حين فض الجيش وقوات الدعم السريع اعتصام القيادة العامية، في 3 يونيو/ حزيران 2019، والمجازر الوحشية التي ارتكبوها بحق المدنيين المشاركين في الاعتصام والمطالبين بتسليم السلطة للمدنيين. وتزداد هذه الفرقة مع ملاحظة أن الجيش السوداني تحوّل، بحد ذاته، إلى حزبٍ لا ينظر إلى الآخرين من المدنيين أندادا. وتأكّد ذلك حين صرح رئيس مجلس السيادة، الفريق عبد الفتاح البرهان، بعد المحاولة الانقلابية، أنه لن يسمح للأحزاب بالتدخل في الجيش. وقد أظهر التجييش الذي اتّبعه البرهان ونائبه حميدتي، خلال جولاتهما على القواعد العسكرية بعد تلك المحاولة، أنهم يحاولون كسب جانب العسكريين أكثر، وبثّ الحقد على المكوّن المدني في قلوبهم، ما أظهر التجييش كأنه موجّه إلى أعداء البلاد الخارجيين، وليس إلى الشركاء في الحكم والوطن.

ومن بين الأمور التي تجعل المحاولات الانقلابية قابلة للنجاح والاستمرار عدم تطبيق القوانين التي تعزّز من الحرّيات الديمقراطية، وكذلك عدم إلغاء النصوص المقيدة للحريات، والتي تميّز على أساس العرق أو النوع. كذلك الإصلاح القانوني وإعادة بناء المنظومة الحقوقية والعدلية وتطويرها وضمان استقلال القضاء وسيادة القانون، كما نصّت على ذلك الوثيقة الدستورية.

بعد محاولة الانقلاب، تعهّد البرهان بألا تنقلب القوات المسلحة على ثورة ديسمبر، وأكّد حرص المكوّن العسكري على إجراء الانتخابات في موعدها، كما أكّد أن القوات المسلّحة ستنسحب من المشهد بعد انتهاء المرحلة الانتقالية. لكن البرهان سرعان ما ناقض كلامه، وبدأ بالتهجّم على شركائه في الحكم، حين قال إن أحداً لا يمكنه إبعاد القوات المسلحة عن المشهد السياسي، وإنهم أوصياء على وحدة السودان وأمنه، وعلى العملية السياسية. وقال إن العملية السياسية لن تمضي إلى الأمام إلا بمشاركة مكوّناتها كافة، وإنه لن يسمح باستئثار جهة سياسية بالسلطة. وهو كلامٌ اعتبره أعضاء في “قوى الحرية والتغيير” أخطر من المحاولة الانقلابية، لأنه يلغي دور الشعب وقواه، إذ إن الشعب هو الوصيّ على الوطن ومؤسساته، وليست القوات المسلحة.

من الأمور التي تجعل المحاولات الانقلابية قابلة للنجاح والاستمرار عدم تطبيق القوانين التي تعزّز من الحرّيات الديمقراطية

وكما في كل انقلابٍ أو محاولة الانقلاب، يبدأ العسكر بتوجيه الإدانات والانتقادات للمدنيين أنهم لم يكونوا على قدر المسؤولية، وأنهم أداروا ظهورهم لمشكلات البلاد، وانشغلوا بصراعاتٍ جانبية فيما بينهم. وهو فعل يتكرّر من أجل تبرير ردّة الفعل عليهم بهذه الطريقة، ومن أجل اكتساب رضى أبناء الشعب الذين يكونون قد وصلوا إلى مرحلةٍ من اليأس، أصبحوا معها يتقبلون أي بديل. وهذا فعله البرهان عشية محاولة الانقلاب، والذي أخذ يطلق تصريحاته وكأن المحاولة قد نجحت، وأنه يبرّر قيامها، حين اتهم القوى السياسية بأنها “غير مهتمة بمشكلات المواطنين”، واتهمهم بالتنافس على السلطة ومحاولة إقصاء الآخرين، بما في ذلك القوات المسلحة. وكرّر الكلام، نائبه، حميدتي، حين اتهم السياسيين بالنفاق، واتهمهم بأنهم السبب في الانقلابات العسكرية، ما أظهر كلاً منهما، من دون أن يدري، أنه أبو المحاولة الانقلابية الأخيرة وأمها، حين أخذ يدفع الشبهات عنه، ويلصقها بالمدنيين الذين ليس لديهم ثقل عسكري.

قد يعوّل السودانيون على الدعم الدولي الواسع الذي تلقاه المكوّن المدني وعملية الانتقال الديمقراطي بعد المحاولة الانقلابية، وكذلك على التهديد الذي لوّحت به القوى الدولية، خصوصاً الولايات المتحدة، التي هدّدت بإعادة فرض العزلة على السودان، ووقف الدعم الذي تلقّاه، إذا ما تكرّرت هذه المحاولة، قد يعوّل السودانيون على ذلك لمنع تكرار هذه المحاولة. وهذا لا يكفي؛ إذ إن عقوداً من العزلة لم تدفع البشير إلى التنازل عن السلطة، على الرغم من كل النضالات التي خاضها الشعب السوداني لإجباره على التنحّي. لذلك، ليس من الوارد أن يهتم أصحاب الفكر الانقلابي بعزلةٍ كهذه إن انقلبوا، إذ لديهم من أسباب العيش الرغيد ما لن يتوفّر للشعب الذي سيعاني العزلة والعقوبات والحصار.

مالك ونوس
العربي الجديد