دكتور ياسر يوسف يكتب: اللبن المسكوب؛ وجهان للفشل الاستراتيجي للحرية والتغيير اللبن المسكوب
دكتور ياسر يوسف
استمعت بالأمس على منصة كلبهاوس إلى جانب من نقاش حول نقابة الأطباء الجاري تكوينها هذه الأيام. كان من المؤلم سماع العزوف الشامل وسط الأطباء عن المشاركة في العملية الانتخابية، و أن نسب المشاركين في تصويت بعض الفرعيات حوالي ٥-١٠٪ من الأطباء العاملين فيها. هذه الأرقام تعني أن نسبة الأطباء التي شاركت في تصعيد و انتخاب لجنة الأبوابي أو اللجنة المركزية في صيغتها الأولى تحت طغيان الإنقاذ تفوق بمراحل نسب المشاركة الحالية، يعني نحن ماشين لي ورا، و الردة ليست بالانقلاب وحده.
فسّر بعض القادة النقابيين المشاركين في النقاش ظاهرة العزوف التصويتي بأسباب عدة فيها الضائقة المعيشية، ضعف الإعلام، و قصور الوعي لدى صغار الأطباء. و هو ما رد عليه أحد (صغار) الأطباء، كبار العقول، بأن قصور الوعي المزعوم هذا لم يمنع صغار الأطباء من المشاركة الواسعة في الثورة، بل و تسيطر أروع ملاحم العمل الجماعي علاجًا في المواكب، و تنفيذًا لأكبر إضراب مهني في تاريخ البلاد، و ريادة لأنشطة الثورة كافة. أما المسغبة المعيشية فهي الأخرى ممتدة من زمن الإنقاذ و لم تحبس جمهور الأطباء من العمل الجماعي مرارًا و تكرارًا إبان تلك الحقبة العبوس.
السبب الرئيسي في قول الطبيب الشاب أن قيادة الأطباء عوضًا عن أن تستغل نسبة المشاركة العالية في الهم العام عقب سقوط النظام و تشرع في تشكيل نقابة، عوضًا عن ذلك دخلت في صراع على خطوط الانتماء السياسي، كما في حال الصراع الشهير بين اللجنة المركزية و النقابة الشرعية، و امتد السلوك العدمي إلى صراع النفوذ داخل وزارة الصحة، فانشغل القادة بكل شيء إلا تمتين مصدر قوتهم الرئيس: وحدة الأطباء و مشاركتهم الواسعة في الهم العام.
سأظل أقول أن الفشل الاستراتيجي لقوى الحرية و التغيير التي تصدت لقيادة الثورة له وجهين: ١) العجز عن إيجاد صيغة مبدعة للمشاركة الشعبية في السلطة، و ذلك عقب ثورة فاقت سابقاتها في حجم و تنوع المشاركة الشعبية. و الآن و لأول مرة في تاريخ السودان تكون هناك فترة انتقالية بهذا الطول بلا رقابة مؤسسية، مما وضع السلطة في مهب اتهامات الفساد و التمكين الحزبي. ٢) عجز الحرية و التغيير عن لعب أي دور في تنظيم الحركة الجماهيرية عقب الثورة. صحيح إن عبء التنظيم يقع على كاهل الجماهير نفسها، إلا أن الحرية والتغيير، كقائد، لم تبادر و لم تيسر بل لعبت دورًا سالبًا في أحيان كثيرة.
استرسالاً، انظر ما صنعت الأقلية الحاكمة بالنقابات. إضافة إلى المثال أعلاه الذي يترك نقابة الأطباء في عنقريب المرض، تأمل صنعها في غيرها: في ديسمبر ٢٠١٨ عينت لجنة التمكين لجان تسيير لاتحادات فيها المحامين، أصحاب العمل، الصناعات الصغيرة، غرف النقل، الغرفة الزراعية، ولاحقًا الأطباء. لجان التسيير إجمالاً ضمت سياسيين من الأقلية الحاكمة. و إذ حدد قانون التمكين ثلاثة أشهر أجلاً لها تستمر تلك اللجان حتى يومنا هذا، بعد ١٩ شهرًا، و بلا أفق لعقد جمعية عمومية لمعظمها، و بلغ الفجع ذروةً درامية بتعيين عضو في المؤتمر السوداني رئيسًا لاتحاد أصحاب العمل، و عضو في حزب الأمة رئيسًا لاتحاد المحامين. ده كلو و منسوبي الأقلية الحاكمة بزعلو لمن يقال لهم سددتم أبواب المشاركة الشعبية و آذيتم الحركة الجماهيرية.
آن أوان رفع بيت الفراش على اللبن المسكوب، و إن لا زال في الحلق غصة، على كل هذا البزار الذي حصل.
صحيفة اليوم التالي