اليهــــودي التائــه فـــي الســـودان
تكتمل الصورة تماماً لأي مراقب للوضع في السودان وظلاله وذيوله وتداعياته، عندما يقترب من الوقائع وأنفاس الأحداث، ويكون على كثب منها، خاصة القضايا الشائكة والمعقدة مثل الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق وبلدنا المثخنة بجراح التمردات والاحتجاجات المسلحة ضد الدولة.
بوجودنا لمدة ثمانية أيام في مقر المفاوضات حول المنطقتين، التي جرت واختتمت بالتعليق لموعد لاحق، بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، تبين لنا أن هناك حقيقة يجب أن نواجه بها أنفسنا بوصفنا سودانيين سواء أكنا من مؤيدي الحكم أو المعارضين، وهي الشطط والمغالاة التي تسكن قلوب المعارضين إلى درجة ضمور وتلاشي الشعور بالانتماء للوطن لديهم، وعدم الاكتراث لما يفعلونه بخناجرهم الحادة ضد بلدهم، ولا يهمهم بقي الوطن أم تبخر كخيط دخان أو تمزق مخروقة بالية عصفت بها الرياح.
من خلال مناقشات طويلة وجدل لم ينته بعد، مع وفد الحركة الشعبية قطاع الشمال، والاستماع لعدد من الخبراء الذين تم استجلابهم واستقدامهم ليكونوا داعمين لوفد قطاع الشمال في المفاوضات وليمدوهم بالآراء والتحليل والأفكار، لم نجد كثير عناء في استكشاف تلك البقعة المظلمة للغاية في تعاطينا مع أزمة داخلية تهمنا بوصفنا سودانيين اضطرنا عدم كيساتنا وفطنتنا ودهائيتنا السياسية، لجعلنا في يد الخارج والقوى الدولية والإقليمية تتلاعب بنا كما تشاء.
لكن الأعجب والأغرب هو قدرة السوداني المعارض على شطب صورة الوطن من جدارية قلبه ووجدانه، واختزال بلده حاضرها ومستقبلها بل ماضيها نفسه، في طموحاته الشخصية ومطمعه الذاتي الذي لا يساوي قياساً بالوطن جناح بعوضة!!
فاستسهال فكرة تأزيم حياة المواطنين البسطاء وكسر دورتها الطبيعية وشلها وتعويقها، وشك الوطن بالرماح والسهام، واسترخاص بيعها على قارعة الطريق بالطريقة التي يتعامل معها رئيس وفد الحركة في المفاوضات وبعض الخبراء السودانيين الذين تقاطروا على مقر التفاوض من أقاصي الدنيا، تدعو للحيرة في حقيقة انتمائهم لبلدهم ووفائهم له، وخلطهم المفجع بين العداوة لنظام حكم والعداء المستبشع القبيح للوطن كوجدان وموئل حياة ومرتع صبا وذكريات وثقافة وتقاليد وجذور وتراب.
فمن يريد ويصر على بقاء الحرب شاخصة مكشرة أنيابها تستغشي ثيابها الكريهة للنزال، شمطاء مكروهة للشم والتقبيل كما تقول الحرب، تحد أظافرها لنهش اللحم الوطني ومص الدماء وشربها.. من يريد لذلك أن يستمر ويتواصل دون مراعاة للأبرياء حصائد القتال والحروب وضحايا الضنك والجوع والفقر واللامبالاة وألوية الغبار والدخان، لهو شخص مخبول ومشكوك في وطنيته وانتمائه، ومعطون في ولائه لترابه كأن المضغة التي في صدره وجوفه قد نزعت منها صورة وطنه وأهله، وعافت خياشيمه رائحة التراب والطين والخريف والدعاش وعرق الحياة السودانية الذي يرشح من جلد الزمان والمكان!!
كاليهودي التائه، هؤلاء الصابئين عن أوطانهم، لا يعرفون سوى أسيادهم الذين يأمرونهم أمام الجميع أن تكون بنادقهم وفوهاتها الحرام مصوبة إلى صدر بلدهم وإلى بؤرة السكينة والسلام والاستقرار فيه.
فوفد الحركة وخبراؤه كانوا مثل اليهودي التائه كارتا فيلوس الذي مرَّ عليه أهله اليهود وهم يسوقون السيد المسيح مثبت على صليبه ليقتلوه، فلطمه اليهودي كارتا وشتمه، فقال له المسيح: «أما أنا فسأصعد إلى أعلى وأنت تتوه وتصاحبك اللعنة أينما كنت». ومن ذلك التاريخ كما تقول قصته أو أسطورته فهو هائم على وجهه بلا وطن أو أرض تصحبه اللعنة الأبدية.. حتى أنه عندما لقيه أبليس في صورة عملاق زري الهيئة كما تقول المرويات والأقاصيص .. قال له أبليس «ستمضي معي» قال له اليهودي التائه: «معك؟ ومن تكون؟». قال إبليس: «منقذك… اخترتك من دون الناس فأنت مثلي تائه في الأرض، وأنا إبليس التائه بين الأرض والسماء تلاحقني اللعنة في كل مكان. وقد وجدتك يائساً. يعميك الحقد ويملؤك اليأس ..» فصرخ اليهودي التائه: «إذن أنت الذي وسوست لي يوم كان المسيح يمر ببابي يدفعه جند الرومان وتلاحقه اللعنات ويضنيه جهد المسير وهو يرزح تحت عبء الصليب، وسألني أن أدعه يستريح على حجري ولكنك همست في أذني. ادفعه عنك. اصرخ فيه…».
سيظل هؤلاء كاليهودي التائه حين أهانوا وطنهم وجعلوه يئن تحت عبء صليب الحرب والتمزق والقتال، وكان الشيطان الأكبر أمريكا، تهمس في آذانهم أن يلطموا وطنهم ويهينوه ويذلوه.. ستطاردهم اللعنات.. سيظلون هائمين في كل اتجاه ومكان تطاردهم صورة الوطن الذي أرادوا ذبحه وصلبه ونحره.
وليس هناك وصف أصدق لهم من هذا الوصف.. وتلك صورة تراءت بوضوح من خلال الخروج القسري بقضايانا إلى الخارج.. وملامح ودواخل من يحملون وطنهم على أكفهم يتسولون به ثم يلقونه في أقرب مكب نفايات وقمامة.
«غداً نواصل».
[/JUSTIFY]
أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة