من الذي أفسد مسار التغيير الحقيقي (3 من3)
بعد أن بيننا في الجزئين السابقين من الذين خططوا ونفذوا التغيير الحقيقي الذي تم في 11 أبريل 2019م، وكيف فقدوا السيطرة على سير الأحداث منذ الشهر الأول من سقوط نظام المؤتمر الوطني، وكيف تم إبعادهم بخديعة أو تآمر أو اتفاق مسبق، وكيف تم تسليم دفة قيادة التغيير لعناصر داخلية من العسكريين و المدنيين وأصابع خارجية ذات أهداف ومصالح، وخطط تختلف تماماً عن خطط وأهداف من صنعوا التغيير الحقيقي وأبعدوا عن دفته، وكيف أن الأصابع الداخلية و الخارجية التي تولت إدارة خطط التغيير الثاني ظلت تتحكم في الشأن السوداني حتى تاريخ التحول الأخير في مسار التغيير في 25 أكتوبر 2021م، فما الذي حدث و جعل العسكريين ينقلبون على قيادة النسخة الثانية من حلفاء الأمس الذين ظلوا تحت حمايتهم طوال الأعوام السابقة من عمر الثورة !!؟
قبل أن نجيب على السؤال، نستدرك هنا سؤالاً آخر عن دور (الشارع) في كل ما جرى وما يجري حتى الآن؟ فقد صدق القيادي بالمؤتمر السوداني خالد عمر (سلك) حين قال إن مصطلح (الشارع السوداني) هو (نوع من الاستهبال السياسي المحض) وأن الشارع هم فقط عضوية الأحزاب!! ف(الشارع) ظل وما زال هو وقود (شغل السياسة) الذي أكمل به مخططو التغيير في نسخته الأولى (شغل السياسة) لإنجاح مخططهم بحشد الثوار أمام القيادة، وهو (الشارع) ذاته الذي أكمل به مخططو التغيير في نسخته الثانية والثالثة (شغل السياسة) لإنجاح مخططهم أيضاً بحشد الشعب بالشارع أو أمام القصر ، ويجري الآن استخدام الشارع من طرفي معركة النسخة الثالثة من التغيير لإنجاح مخططاتهم و تحقيق أهدافهم التي، للأسف، لا تمثل بالضرورة أهداف و مطالب و حاجات (إنسان الشارع) المغلوب على أمره، والذي يعاني الأمرين في توفير أبسط مقومات حياته الكريمة.
التغيير في نسخته الثالثة والذي قادته قيادة الجيش بضغوط كبيرة من قواعد المنظومات الأمنية استدعته ومهدت له ودعمته أربعة عناصر أساسية، أولها كانت حالة السيولة الأمنية المتزايدة التي ضربت البلاد في العاصمة والمدن الأخرى وعلى الحدود كافة، في ظل تراخي وعدم اهتمام تام للحكومة بالهاجس الأمني ومهددات الأمن القومي المتزايدة التي ظلت تحتشد بها تقارير الجهات الأمنية المتخصصة في جهازي المخابرات والاستخبارات العسكرية، وكذلك حالات الاختراق الأمني الخطيرة لأجهزة المخابرات الخارجية للواقع السياسي السوداني، والتي تمثل مهدداً رئيساً للأمن القومي، ولعل أخطر مظاهره هو كثافة الخبراء الأجانب في محيط المكون المدني؛ الذين يديرون كثيراً من الملفات الخطيرة التي تشكل مستقبل البلاد، دون إحاطة للمكون العسكري بتفاصيل ما يحدث خلف الأبواب المغلقة هناك، وثاني العناصر التي دفعت قيادة الجيش لإحداث التحول الثالث في مسار الانتقال كان هو حالة التشظي والاحتقان الشديدة التي سادت مكونات ما يسمى ب (الحاضنة السياسية) خاصة التشاكس المتصاعد بين الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية سلام جوبا من (قحت) من جهة أخرى، و اتهام الأولى للأخيرة بأنها تحتكر السلطة التنفيذية لأربعة أحزاب بلا قواعد شعبية، وأنها تدبر في الظلام وتخطط لمستقبل البلاد بصورة فردية، بالتعاون مع خبراء أجانب، وأن ذلك يتم دون معرفة و توافق بقية القوى السياسية عليه، وقد أوشك هذا الاحتقان أن يتحول إلى صراع لن يحمد عقباه، في ظل انتشار السلاح ليس فقط بيد الحركات المسلحة، بل وبين المواطنين أيضاً، فكان لابد من تلافي وصول هذا الاحتقان لمراحل الانفجار الأمني ، وثالث العناصر كان حالة الاستياء التي ضربت القوات النظامية نتيجة حملات الشيطنة والتجريم و التطاول بالشتائم والسباب التي ابتدرتها مكونات مدنية وشاركت فيها قيادات ووزراء من المكون المدني، متجاهلين طبيعة و تربية أفراد المنظومات الأمنية، و تصويرها للمعركة الدائرة بالبلاد على أنها معركة بين (مدنيين و عساكر)، حتى كان أحد أسباب التحركات العسكرية التي وصفت بأنها (محاولات انقلابية) هو (استرداد كرامة المؤسسة العسكرية)!! ، و لعل رابع هذه العناصر كان استمرار التراجع والتردي الاقتصادي المريع والذي انعكس في حالة الغلاء الفاحش و تردي وانعدام غالب الخدمات و جأر المواطن بالضيق و العوز وعدم قدرته على إيفاء متطلبات حياته الأساسية.
برغم أن التحول الثالث في مسار الانتقال الذي قاده الجيش قد حقق بعض أهدافه المذكورة؛ فمنع البلاد من الانزلاق إلى الانفلات الأمني أو الحرب الأهلية حتى الآن، وسد كثيراً من ثغرات الأمن القومي، و قلل من حجم الاختراق الأمني للبلاد، ولجم حالة الاستياء داخل صفوفه، إلا أن التدخلات الخارجية الظاهرة والضغوط التي مورست على القيادة العسكرية قادت للأسف لتراجع خطوات مسار التحول الثالث، فتم إعادة رئيس الوزراء (حصان طروادة المحاور الخارجية) في الشأن السوداني ليقود ما تبقى من مرحلة الانتقال، وليشكل حكومته الثالثة بعد فشل حكومتيه السابقتين!! وظلت حالة الضيق المعيشي للمواطن كما هي و لا تبدو أي بوادر انفراج فيها بعد، و ما يزال الشارع منقسماً بين مؤيد و متشكك و رافض للتحول الثالث، والمرجح أن شهر عسل الزواج القسري بين المكونين الحاليين للتحول الثالث سوف لن يكون طويلاً، والأرجح أن تنفجر الخلافات بينهما قريباً، خاصة في ظل إصرار رئيس الوزراء أن يظل رهيناً لرغبات (قحت 1) كما برز في تعييناته الأخيرة التي جاءت بعناصر حزبية صارخة كأول خرق للإعلان السياسي الموقع بين المكونين، و ربما نشهد قريباً بدايات التحول الرابع في مسار الثورة، فهل سيكون عسكرياً خالصاً إلى حين إجراء انتخابات مبكرة !!؟ وسيظل ليل الخرطوم طفلاً يحبو ويحبل بالمفاجآت.
اماني ايلا
صحيفة اليوم التالي