مقالات متنوعة

سراج الدين مصطفى يكتب : ناجي القدسي.. ذاكرة الساقية!!


(1)

حينما نسمع أغنية بقامة الساقية أو حمام الوادي أو سلم بعيونك أو خليتني ليه عشت الشقا، لا بد أنها تستوقفنا وتدهشنا وتصل بنا الى آخر حدود الطرب، تلك الأغنيات وغيرها تؤشر على عبقرية الموسيقار الراحل ناجي القدسي، هذا الرجل النحيل الذي ضخّمته أغنياته التي قام بتلحينها، فهو ملحن من طراز الجمال والمغايرة، جملته الموسيقية غير مكرورة، ألحانه لا تشبه بعضها مطلقاً، فهو يختلف عن الملحنين بأنه يضع لحناً لا يشبه الآخر في شئ غير الروعة والتطريب العالي.

(2)

بدقيق العبارة يُمكننا أن نصف الموسيقار الراحل ناجي القدسي بأنه صاحب وجدان مبعثر ما بين السودان واليمن رغم (الموتيفة) السودانية ذات اللون الأسمر التي تسكن ما بين كل مازورة وأخرى في أغنياته وألحانه.. القدسي نفسه يقول (أنا حياتي قامت على فكرة البعثرة).. ولعله ذلك التميز في الجنسية منح الرجل اسمين.. فهو في السودان يطلق عليه (ناجي القدسي محمد أحمد علي إسماعيل), وفي اليمن السعيد (ناجي محمد عبد الله علي الهيثمي).

ارتبط ناجي القدسي بمدينة كسلا لأنها موطن والدته، ولكنه تنقل في عدة مدن في هذا السودان ما بين عطبرة وسنار وكسلا ، وهذا التنقل كان له تأثيراته التي ظهرت بعد على ألحانه وأغنياته، وهو يقول (أنا لو قالوا لي اختار أجمل مدينة في العالم فلن أتردّد وأقول سنار ، لأنها مدينة جميلة في كل تفاصيلها ويكفي أنها علّمتني بداية اللحن والعلاقة مع الموسيقى).

(3)

جذور النغم الأولى يبدو أنه رضعها مع لبن والدته، فهي كانت فنانة وذات إيقاع موزون ظهر ذلك في نغمية هدهدتها الحانية، ولكنه في عطبرة وهو صغير صنع له آلة موسيقية من الخشب والأعواد والمسامير حتى تقربه من تركيبة النغم واستطاع لوحده وبدون مساعدة أي شخص وبدون معلم من استخراج نغمات وعن طريق حفظ مواقع الأصابع عليها استطاع أن يكون بعض الجُمل المُوسيقية واللحنية وكل ذلك عن طريق الفطرة والموهبة الأولى.

(4)

تأثرت ناجي القدسي جداً بالأستاذ الراحل أحمد المصطفى.. ويحكي القدسي عن سبب تعلقه بأحمد المصطفى ويقول (تعلقت بألحانه لأنه كان أجمل من يقدم موسيقى سودانية في تركيبتها الأساسية, وهو من أفضل الذين عزفوا على العود واستخرج منه ألحاناً في غاية الروعة والإدهاش، وأحمد المصطفى فنان لا مثيل له وهو لوحده فنان نخبة.. وأنا يا عزيزي كنت أعشق هذا الفنان لدرجة الوله, فهو لم يكن فناناً مُغنياً فقط ولكنه كان فناناً في كل شئ، في طريقة أناقته وملبسه وطريقة كلامه وطريقة إدارته، لقد كان رجلاً متكاملاً والكمال لله وحده.

(5)

أول الفنّانين الذين التقى بهم ناجي القدسي كان هو الفنان الفنان أبو عركي البخيت الذي لمس فيه مقدرات هائلة وكبيرة وكان تغنى وقتها للملحن أحمد زاهر “بوعدك يا ذاتي” وغنى لمحمد الأمين طريق الماضي, ولكن أبو عركي هذه الأغنية لم يتحسسها جيداً رغم روعة وجمال لحنها الذي جسّد فيه محمد الأمين كل مقدراته اللحنية المهولة.. أبو عركي غنى له أغنية “جسمي انتحل” وبعدها اختار أن يتعلّم منه كيفية التلحين.. فقدم له نصائحَ عديدة وأصبح بعدها مُلحِّناً له خُصُوصية وشخصية.

(6)

بعد أبو عركي البخيت وأغنية “جسمي انتحل” جَاءت فترة تعاونه مع الفنان حمد الريح وكانت أغنية “الحقيقة” هي من أوّل الأعمال, ولكن حمد الريح لا يغنيها وفي تلك الفترة أخذ قصيدة “الساقية” من عمر الطيب الدوش وكان ذلك في العام 1969 وهذه الأغنية لحّنها ناجي القدسي لمحمد رودي, ولكن لبعض الظروف السياسية وقتها لم يغنيها وردي.. ولكن الدوش في ذلك الحوار الإذاعي الشهير قال إنه كتب الأغنية ليغنيها وردي ولكنه لا يعلم الظروف والأسباب التي جعلت ناجي القدسي يعطي الأغنية لحمد الريح.. بالمناسبة العلاقة بين الدوش وحمد الريح لم تكن على ما يرام.

(7)

ذات مرة سألت الراحل ناجي القدسي وقلت له هل أنت نادم على هجرتك من السودان؟ فقال لي الرجل والدمع كاد أن يطفر من عينيه (أنا في حالة ندم تام وحزن كبير على كل الوقت الذي أهدرته في اليمن, لأنني فقدت الغذاء الروحي ولم استطع أن أقدم أعمالاً غنائية جديدة للبلد الذي غنيت له:

تقول لي من بكرة .. مهاجر لوطن تاني

دا إنت القلت ما بتفوت .. وطن بالعزة رباني

صحيفة الصيحة