في أمدرمان العريقة .. ثورة شعبية تتبرج من وراء ”الطوابي”
حين عبرنا كوبري أمدرمان القديم – بمعية زملاء مهنة المتاعب – كانت أمدرمان تلك المدينة المعروفة بملامحها العريقة، تستقبل زوارها القادمين من الخرطوم برائحة الثورة المتصاعدة إلى السماء مع لُفافات الدخان الأسود، كانت الأجواء النهارية تنبئ بأن مليونية الـ١٣ من ديسمبر، ستكون مثل بروفة ساخنة قبل العرس الثوري الكبير، في 19 ديسمبر عيد الثورة المجيدة، وحينما دلفنا إلى شارع الموردة وعند مبنى البلدية العريق، وبالقرب من مكتبة البشير الريح كان منزل ” العمة الكنداكة آمال” هو المحطة الأولى التي تشبعنا فيها بعبق الأصالة الأمدرمانية ذات الروح الثورية الهائمة بين زوايا المجد القديم وزهو الحاضر الذي يكتب الآن بدماء ” الجيل الراكب راس”، ومن هناك كانت وجهتنا إلى صينية الأزهري حيث كانت الحشود والأعلام والطبول وزغاريد النساء تُشكل لوحة البطولات الفريدة لأمدرمان المهدي والأنصار والزعيم الأزهري وعبدالخالق محجوب ومحجوب شريف وخالدة زاهر، وصولاً لشباب المقاومة المتدفقين من كرري وودرو وبيت المال وودنوباوي والملازمين وحي العرب والعمدة والمسالمة والثورات والفتيحاب والموردة والهاشمباب والعباسية وامبدات، وغيرها من حواري أمدرمان وأزقتها الراقدة بين سطور المجد التليد.
(1) عند بهو الأزهري..
تتعانق الأعلام فوق نفثات الهتاف!!
كان شاعر الشعب محجوب شريف حاضراً بكلماته الخالدة، وكانت أهازيجه التي دونها من داخل عتمة السجون، كانت صداقاً لعرسٍ ثوري كبير يضج بالهتاف والطبول عند بهو البيت التاريخي القديم “منزل الزعيم الأزهري”، كان الثوار يشعلون النهارات بالحماس الأنيق، وكانت أعلامهم ترفرف فوق الفضاءات المشحونة بالثورة والرفض العميق لاتفاق البرهان حمدوك، كانت أمدرمان كلها تهدر في الشوارع وحتى أبواب البيوت والنوافذ كانت مشرعة لدخول الهتافات ضد العسكر إلى محاجر الأطفال تعبأهم إلى الاستغراق في ثقافة ثورة باتت سمة وسلوك ونقش إبداعي فريد يتناغم مع “حيطان” المدن. كل الحشود الهادرة تحركت صوب كوبري شمبات لاستقبال ثوار مدينة بحري، وكان الإحساس مثل بوصلة تأبى أن تتوجه مؤشراتها إلى نحو الاتجاه البحراوي، وكأن الثورة في أمدرمان مثل “نذر” ينبغي الوفاء به، أو كأنها مشروع لرد التحايا بأفضل منها.
(٢) بحري وأمدرمان..
لقاء يصعد مع “بالونات” الثورة!!
في تمام الثالثة ظهراً كان كوبري شمبات يتدفق بسيول بشرية هادرة بالهتاف والنشيد، تتزحلق من أعلى الكوبري سيراً على الأقدام تبحث عن مصبها في أرض أمدرمان، وكانت حشود أمدرمان تستقبلهم بالهتاف وشعارات الثورة، وعندما تداخلت الأمواج البشرية في بعضها البعض، تصاعد “بالون” الإحتفاء إلى الأعلى، يرسم في الفضاء قدرية اللقاء التاريخي بين ثوار جمعهم حب الأرض والوفاء لشهداء الثورة، كانت مواكب لجان أحياء بحري والحاج يوسف تزلزل أرض أمدرمان، وكانت أمدرمان مثل حضن الأم الحنون، تفتح سواعدها حباً وكرماً وعناية، وكان أبنائها وبناتها مثل عصافير الخريف تحلق بأجنحة يدفعها الحماس الثوري، ذلك الحماس الذي يتعانق في الفضاء مثل عناق البالون والطيور في سماء أمدرمان، في لوحة عبقرية لم تشهدها كل صنوف الاحتفالات والمناسبات الوطنية من قبل.
(٣) مشاهد استثنائية..
ثوار وشعراء وصوت أبوعركي يُغذي الحماس!!
في شارع الزعيم الأزهري، كانت حشود الثوار من أمدرمان، وبحري، تتخذ من زخم مواكبها مسرحاً في هذا المكان، وكانت الحشود مثل خيوط الشمس تتشابك فيما بينها، حيث تتناسل المعاني والقيم وحب الوطن، والرغبة في تحريره من سلطة العسكريين، وكل الحاملين لجينات الانقلاب، وفي وسط الحشود رصدت (الجريدة)، الشاعر أزهري محمد علي يتوسط الثوار، وكان أزهري يمشي بينهم وكأنه يغزل القصيد الثوري عقداً مزخرفاً حول أعناق الثوار المرفوعة هاماتهم، وبين هذه المشاهد كان صوت الفنان أبوعركي يملأ المكان بعبق صوته المشحون بالشجن وهو يغني (أنا أمدرمان أنا السودان)، وكانت مقاطع صوته مثل الأراجيح يتزحلق فيها العاشقون الحرية والسلام والعدالة، وفي زاوية أخرى رصدت ( الجريدة) حضور عضو مجلس السيادة السابق صديق تاور بين الثوار يلوح بعلامة النصر، وكان الثوار حوله يختفون : الشعب أقوى والردة مستحيلة، ومن جانب آخر كانت المنصة الاعلامية للجان المقاومة تضج بمخاطبات جماهيرية تنويرية تحث الجماهير لمواصلة الحراك الثوري وتدعوهم ليكون يوم ١٩ يوماً ثورياً فاصلاً.
صحيفة الجريدة