مشارح السودان… تكدس الجثامين وتلاعب بتقارير الطب العدلي
يكشف تحقيق “العربي الجديد” عن أسباب فوضى تكدس الجثامين في مشارح السودان منذ ثورة ديسمبر، ويوثق عمليات تلاعب بتقارير الطب العدلي، والتي يقول أولها إن الوفاة طبيعية بينما يكشف ثانيها عن تعذيب ومحاولات طمس لأدلة.
– لم تقتنع أسرة الشاب السوداني بهاء الدين نوري بنتائج تقرير تشريح جثمانه الصادرة عن الطب العدلي في 20 ديسمبر/كانون الأول 2020، إذ ذكرت أن الوفاة طبيعية، كما يقول المحامي عثمان البصري عضو لجنة المختفين قسريًا (المفقودون في أحدث فض اعتصام القيادة العامة 3 يونيو/حزيران 2019)، مضيفا أن أسرة بهاء طالبت بإعادة تشريح جثمانه، وأصدرت النيابة العامة قرارا في 27 ديسمبر بإعادة التشريح بواسطة فريق طبي مكون من ثلاثة أطباء وأخصائي باثولوجيا (علم الأمراض)، وفي ذات اليوم اعترفت قوات الدعم السريع، على لسان الناطق الرسمي، العميد الركن جمال جمعة، بأن بهاء الدين نوري توفي بعد القبض عليه بواسطة استخبارات الدعم السريع، مؤكدا في تصريح منشور على صفحة الدعم السريع على “فيسبوك”، إحالة كل من رئيس استخبارات الدعم السريع، والضباط المعنيين إلى التحقيق والتحفظ على الأفراد الذين شاركوا بالقبض على نوري إلى حين الانتهاء من إجراءات التحقيق في القضية، بينما قالت النيابة العامة بعدها بيوم إن تقرير اللجنة الثانية، أثبت تعرض المجني عليه لإصابات متعددة أدت إلى وفاته، وبحسب محمد نوري شقيق بهاء، فإن التقرير النهائي أكد وقوع الوفاة بسبب التعذيب، لتتحول القضية من موت في ظروف غامضة إلى قتل.
ما وقع لجثمان بهاء، تكرر في تقرير تشريح جثمان عضو لجان مقاومة الجريف شرق، محمد إسماعيل الحاج أبكر، إذ بين التقرير الأول الصادر في 25 أبريل/نيسان، وفق ما جاء في أوراق القضية رقم 106 لسنة 2021 أن “الجثة بحالتها الراهنة من التحلل وبرفع الأنسجة الرخوة للرأس لم نتبين أية معالم إصابية، وعظام الجمجمة وجدت سليمة وخالية من الكسور، والسحايا سليمة وتبينا سلامة عظام الوجه والفكين، والعنق بحالته الراهنة من التحلل، لم نتبين به أية معالم إصابية، كما تبينا سلامة عظام العنق من (فقرات عنقية وغضاريف الحنجرة)، والعظم اللامي (يقع عند قاعدة اللسان) سليم، والصدر بحالته الراهنة من التحلل لم تبين بجدُره الرخوة أية معالم إصابية ظاهرة، وتجويف القفص الصدري خال من النزيف والارتشاح، وجدار القفص الصدري الصلب من (أضلاع، فقرات صدرية، قص، ترقوتين) وجدت سليمة وخالية من الكسور، والرئتين والقلب في حالة تحلل متقدم”.
بينما يؤكد التقرير الثاني الصادر في 25 مايو/أيار الماضي، والذي تم بعد تدخل من لجنة المختفين قسريًا، “وجود كدمات دموية في قاعدة الجمجمة، وخلف الأذن اليمنى في منطقة الصدغ، وكدمات متفرقة في الأيدي والأرجل والصدر”. وأثبت التقرير ذاته أن سبب الوفاة “الإصابة بجسم صلب، أدى إلى كدمات تحت فروة الرأس، ونزيف داخل المخ، ما أدى إلى الوفاة”، وخلص التقرير إلى أن “المتوفي تعرض للأذى الجسيم والذي يمكن أن يرقى إلى درجة التعذيب”.
ووثقت معدة التحقيق تناقضات أخرى لتشريح جثمان شاب عشريني من مدينة أم درمان، لا يتطابق مضمون تقريره مع صور الجثمان التي اطلعت عليها معدة التحقيق (اشترط المصدر عدم الكشف عن بياناته) والتي قارنتها مع تقرير التشريح، إذ بين التقرير “وجود تكدمات دموية، حديثة في الظهر، وانسكاب دموي في الأنسجة والعضلات أسفل الكدمات، ولذا فإن سبب الوفاة، الإصابة بجسم صلب”، بينما خلت صور الجثمان من بعض ما جاء في التقرير، مثل عدم وجود تكدمات دموية في الظهر.
ويعلق المحامي الطيب أحمد العباسي، رئيس لجنة المختفين قسريًا، على ما سبق، قائلا لـ”العربي الجديد”: “من خلال استجوابنا لبعض الأطباء العدليين أقروا بحدوث تجاوزات فنية وطبية، إذ لا يمكن أن يقول تقرير طبي لا يوجد تعذيب، وعند إعادة التشريح مجددا، تظهر آثار تعذيب، كما حدث في قضية بهاء الدين نوري، وجثمان أبكر”، ووصف ما جرى ويجري بـ”وجود أيادٍ ملطخة بدماء الشهداء”، ترغب في عدم وصول الجناة إلى منصة العدالة.
لكن الدكتور محجوب بابكر محمد، استشاري الطب الشرعي والسموم في هيئة الطب العدلي بوزارة الصحة في ولاية الخرطوم، وعضو المجلس الاستشاري للأطباء الشرعيين بوزارة الصحة الاتحادية، يقول لـ”العربي الجديد”: “لا أستطيع نفي أو إثبات وجود تجاوزات”، مستدركا: “قد يتجاوز الطبيب الشرعي بعض الإجراءات ويقع في خطأ أحيانا، لكن لا أعتقد أن هناك طبيبا لديه نية الإدلاء عن عمد بشهادة زور”.
في أغسطس/ آب الماضي، كشف أطباء شرعيون، من بينهم الدكتور بابكر محمد، عن عمليات تلاعب في أرقام جثامين بمشرحة التميز، ودفن جثث بدون التعرف عليها، وقدّم هؤلاء الأطباء استقالاتهم من لجان التشريح المُشكلة بواسطة النيابة العامة كما يقول، مشيرا إلى دفن جثمان مسجل برقم 103 في 11 يوليو/تموز الماضي، رغم أن به شبهة جنائية.
وتابع :”قمنا بتشريح جثمان 103، وكتبنا في التقرير “لا يدفن” لوجود شبهة جنائية وهناك حاجة لمزيد من التقصي”، لكن بعد دفنه وجدنا الرقم مسجلا على جثمان آخر في المشرحة، مشيرا إلى أنهم كتبوا على 8 جثث “يجب أن لا تدفن” منها الحالة 103 والتي كانت من بين 23 جثمانا تم دفنها، لكن تم الأمر دون معاينة بعضها من قِبل طبيب الأسنان الشرعي. “هذه كارثة” يضيف محجوب، متابعا أنهم قاموا بفتح بلاغ جنائي وقدموا شكوى للنائب العام السابق، وأعلنوا توقفهم عن التشريح وعدم العودة حتى يتم تكوين لجنة للتقصي في حالتي أبكر و103، وقالوا إنهم لن يعودوا للتشريح حتى تصدر النيابة العامة قرارها في هذا الأمر و”لن يعود الأطباء للعمل قبل معرفة نتائج التحقيق، لأننا سنكون شركاء في أمر لا يحمد عقباه، إذا واصلنا العمل”.
دفن جثامين رغم قرارات بعدم التنفيذ لوجود شبهات جنائية
وهو ما يؤيده مصدر قضائي (رفض الكشف عن اسمه لدواعي الحفاظ على عمله)، مؤكدا لـ”العربي الجديد” وجود تلاعب بتقارير الجثامين، ودفن بعضها دون تشريح، ويشير إلى وجود إهمال في إجراءات التشريح من بعض الأطباء. لكن النيابة العامة ردت في بيان صادر عنها في 22 أغسطس الماضي، أن قرارات دفن 23 جثمانا جاءت وفقًا لتوصيات اللجنة المشكلة لهذا الغرض، وتمت مراعاة كافة الضوابط والمعايير الوطنية والدولية والبرتوكولات ذات الصلة فيما يتعلق بأوامر التشريح وأذونات الدفن، وأخذ العينات والتصوير بواسطة الأدلة الجنائية.
يصدر أمر التشريح من النيابة العامة، وليس متروكا لهيئة الطب العدلي، وفق تأكيد الدكتور هاشم محمد صالح فقيري، مدير هيئة الطب العدلي بوزارة الصحة في ولاية الخرطوم لـ”العربي الجديد”، مشيرا إلى أن الإجراءات المتبعة كالتالي: يدخل الجثمان إلى المشرحة بأورنيك (8) ويتم تسجيل البيانات في دفتر الدخول، رقم دخول ورقم البلاغ، ثم أمر تشريح من النيابة العامة.
ويقول: “عند تسلمي إدارة هيئة الطب العدلي في يناير/كانون الثاني 2020 وجدت قرارًا من لجنة التحقيق في اختفاء الأشخاص قسريًا، بمنع التشريح والدفن، وطالبنا بالقرار لكن المدير السابق لهيئة الطب العدلي، قال إنّ اللجنة قابلت مدراء المشارح وأبلغتهم بالقرار شفاهةً”.
وتوجد في مدينة الخرطوم 3 مشارح موزعة على 3 مستشفيات حكومية، هي أم درمان، وبشائر، والتميز الأكاديمي، وفق فقيري، مؤكدا أن المشارح الثلاث تضم حاليا 1700 جثمان، رغم أن سعتها 120 جثمانا.
تكدس الجثامين بالمشارح
ومع نهاية النظام السابق وبداية ثورة ديسمبر 2018، أُهملت المشارح وتكدست الجثامين وارتفعت أعداد مجاهيل الهوية، بحسب الدكتور بابكر محمد، مشيرا إلى أن لجنة المختفين قسريًا، أصدرت توصياتها بعدم الدفن، إلا عبر لجان تشريح (كل لجنة تتكون من ثلاثة أطباء وتوافق عليها النيابة وهيئة الطب العدلي)، وبالتالي تم إيقاف كل الإجراءات المتعلقة بالجثامين، ومنع الأطباء الشرعيين في المشارح، ومنع مدراء المشارح من أيّ إجراءات دفن وتشريح للجثامين، ويقول: “عندما بدأت اللجان بالعمل في 25 أبريل الماضي، كان عدد الجثامين في المشارح 1600 جثمان”، مؤكدا حدوث مشاكل في سير العمل، تحديدًا على مستوى مشرحة الأكاديمي عقب بدء العمل، تمثلت في عدم تعاون إدارة المشرحة مع الأطباء، فتوقفوا عن العمل مرتين، بالإضافة إلى الشعور بعدم رضا هيئة الطب العدلي على تكوين النيابة العامة للجان “وكان ذلك واضحًا في طريقة العمل” يضيف محجوب.
ويتابع: “على مستوى الإجراءات العادية، إذا كانت هناك إشكالية في إدارة المشرحة مثلا، لن يتم التشريح في ذلك اليوم، ولا يتم إخطار الأطباء مُسبقًا، فضلا عن تدخل إدارة المشرحة في العمل الفني فيما يتعلق بالجثامين أثناء القيام بالتشريح، والتأخير في فتح الثلاجة من قِبلها، وكيفية ترتيب الجثامين، وتصنيفها، ونقلها من الثلاجة”.
وحول من يقف وراء الأزمة ولصالح من؟ يقول الدكتور محجوب: “أتمنى أن يكون هذا الأمر عن طريق الخطأ وليس قصدًا، ولا يتم في أيّ وقت المساومة بأرواح السودانيين، أو اعتبارها “كرت” للضغط، سواء من الجانب العسكري على المدني، أو العكس، فهناك جثامين تعود لأطفال حديثي الولادة، وحوادث المرور، فلماذا يتم وضعهم داخل الثلاجات لتزيد السعة الكُلية للمشارح وتتكدس الجثامين؟
ويضيف:” مُنذُ فض الاعتصام تعرضنا لأكثر من 17 تحقيقا من لجان مُختلفة ولم يصدر أيّ قرار حتى الآن، تم التحقيق معنا حول التقارير، كم جثمان قمنا بتشريحه؟ ولمن؟ وهل يعود لفض الاعتصام؟ وكيف عرفت ذلك؟”، محملا هيئة الطب العدلي مسؤولية ما جرى، ويتابع: “لو كانت تعاملت بصورة جادة ما كانت الجثامين لتتكدس في المشارح”.
لكن فقيري يكشف عن مخاطبتهم لجنة المختفين قسريا في 15 يناير 2020، وتوالت بعدها الخطابات والمطالبات، غير أن اللجنة قالت على لسان مقررها أحمد سليمان، أن هناك تحقيقات مع المشارح والأطباء، وإذا لم تكتمل التحقيقات لن يتم السماح بالتشريح والدفن، بحسب قوله.
واتّهم فقيري، اللجنة بالتملص من مسؤولياتها، قائلا: “هي سبب الأزمة”. ويؤكد أن اللجنة منعت تشريح جثامين ما قبل يناير 2021 بسبب المشاكل المتفاقمة، وهذا يعني عدم تشريح جثامين 2019 و2020. ويضيف: “عندما تمت الاستعانة بي في لجنة التحقيق عام 2019، قلت لا جدوى من الاحتفاظ بالجثامين في المشارح، لأن سعتها محدودة، والوضع سيكون كارثياً وستطمس الأدلة وتضيع”.
وأثبت تقرير صادر عن لجنة مشكّلة من النائب العام السابق مبارك محمود للتحقيق في أسباب تكدس الجثث في المشارح، أن سبب الأمر القرار الخاطئ وغير المدروس من قبل لجنة المختفين قسريا، بعدم التشريح والدفن، وفق فقيري، والذي يرفض اتّهام هيئة الطب العدلي بطمس الأدلة وتكدس الجثث، قائلا: “رفعنا دعوى جنائية للقضاء، وإذا ثبت الأمر سيتم محاسبتنا بالقانون، أما أن تكون المسألة تصفية حسابات واستغلال جثامين الموتى لأجندات شخصية وسياسية فنحن نرفضها”، ويضيف: “لم يتركوا لنا خيارا بعد أن تجاوزوا حدود أخلاقيات المهنة في خلافاتهم”، مؤكدا أن النائب العام السابق مبارك محمود أوقف لجنة المختفين قسريا عن العمل في المشارح، وتم تكليف وكلاء نيابة وأعاد الحق لوزارة الصحة في تكوين اللجان.
من يتحمل المسؤولية؟
يتهم المصدر القضائي لجنة المختفين قسريا، بأنها السبب في تكدس الجثث بالمشارح من خلال قرارها إيقاف التشريح، قائلا: “عندما تتراكم الجثث وتتحلل، تضيع الأدلة والبيّنات التي تدين بعضهم، علما أن أكثر من جهة لها مصلحة في تكدس الجثث”، ويضيف أن هناك من لا يرغب في ظهور هذه البيّنات، وعدم معرفة هوية الجثامين.
ويدافع المحامي العباسي عن قرار اللجنة، قائلا إنّ قرار اللجنة، يقوم على احترام لمجهول الهوية وتشريح الجثمان بطريقة علمية، والسبب الأساسي أن يكون قبر مجهول الهوية معلوم من خلال، فحص الحمض النووي الوراثي، والبصمة الوراثية وتصوير الجثمان وتسجيل البيانات في سجل المشرحة المعنية.
ويضيف العباسي: “في السابق تم قبر مجهولي الهوية بطريقة غير إنسانية بعد وضعهم في المشرحة لمدة شهرين، ما دام لم يأت أحد من ذوي مجهول الهوية للتعرف على الجثمان. أما الطريقة التي اتبعناها فنصت عليها المواثيق الدولية، ومنها تشريح متكامل للجثمان وأخذ كل معلومات التشريح”، وتابع: “وجد قرار اللجنة امتعاضا من بعض مديري المشارح، وتعطيلا من أطباء الطب الشرعي، والطب العدلي في ولاية الخرطوم، لعدم التعاون بين أطباء المشارح، بسبب خلافات إدارية وفنية وشخصية”، مؤكدا أن من أسباب تكدس الجثث، عدم الانصياع لأوامر اللجنة وعدم تعاون إدارات المشارح، فالطب العدلي الولائي أُنشئ في عهد النظام البائد، واكتشفنا من خلال التحريات والأقوال القضائية وجود ضغوط، علما بأن جهاز الأمن السابق كان مسيطرا على المشارح حتى مجزرة فض الاعتصام في يونيو 2019، فضلا عن وجود مخالفات، لها علاقة بالجثامين، ويستدل بجثمان قصي حمدتو (قتل في فض اعتصام القيادة العامة في يونيو 2019، وتم استلامهُ في أواخر سبتمبر من نفس العام) الذيّ انتزعتهُ أسرته من داخل مشرحة أم درمان بعدما ظل فيها لمدة أربعة أشهر، رغم أن إدارتها سبق أن نفت وجود الجثمان.
العربي الجديد