أحمد الفيتوري يكتب حال البين بين!
العسكر منا ينقلبون، منذ العقد الثالث في القرن الماضي، لتصحيح المسار، أما المدنيون فينتخبون ولا ينتخبون
أريد ولا أريد، أن أكتب، وأن أكتب هذا. وجدتني بين براثن شبكة عنكبوت، الواهنة كما تبدو، القوية عندما تصطاد. أن تكون في حالي، وأن يقرأ القارئ، بأن ما أكتب ليس تحليلاً موضوعياً، ولكن طنين نحل، تجد العذر للقارئ الناقد، لكن رصده لا يشبع من جوع، فإني في حال البين بين: أريد ولا أريد، أن أكتب، وأن أكتب هذا.
كتابة رؤية لا كتابة رؤيا، أي تحليل ما ترى لا ما تتصور. وكإنسان ومن البلاد الليبية، يغمرني عجاج البلاد، ما في الوقت نفسه، تُجرى الانتخابات ولا تجرى الانتخابات، أتنصل مما يشدني إليها، فإذا ببلاد بعيدة كالعراق، أنهت الانتخابات ولم تُنهها، وكذلك لبنان أجل ولم يؤجل انتخاباته، أما تونس فالحال فيها، انقلاب وليس بانقلاب كحال السودان. أينما وليت وجهي، متنصلاً مما أرى، لا أرى إلا ما تنصلت منه. ولا أعرف أحالي من ما أرى، أم أرى حالي؟، أي يتلبسني “الإسقاط”، المصطلح السيكولوجي المهترئ، من كثرة الاستخدام في ثقافتنا.
بكسل المحتار، استعنت بالقاموس، ما البين البين في اللغة؟ التعريف المعجمي، للمفهوم في اللغة العربية، ينطلق من كلمة “بين” التي تعد ظرفاً يفيد وسط شيئين، كما يعني الفرقة والوصل، وكذلك، العداوة والصداقة، وهو بذلك من الكلمات الأضداد. ويدل المركب “بين – بين” على كل ما يحتل موقعاً وسطياً، بين شتى أنواع الثنائيات المتعارضة. وفي اللغة الفرنسية يعني “L’entre-deux”، الحيز الواقع بين حدين متباعدين، كما يفيد الحالة، أو السعة الموجودة بين طرفين نقيضين، ويدل أيضاً، على ما يقع بين قطبين متعارضين، مع وثاقة صلته بهما، واستمراره من خلالهما، كما في كتاب، “جمالية البين – بين في الرواية العربية” لرشيد بنحدو.
لم يفكني هذا المسار، من أسر الـ “ما بين – بين”، ولا أيضاً بطبيعة الحال، فسر الحال. لكنها قشة الغريق، من يظن أن لا غريق غيره، فينسى أو يتناسى: أننا كل في “البين بين” عرب، في تذبذب بين هذا وذاك، يتجاذبنا الشيء وضده، نريد، والموكد، أننا لا نعرف ما نريد، ومرجع ذلك النزعة الـ “ما بينية”، التي تنتابنا عند التفكر في الأمر، ما نحدو إليه واثقين، وعنده بوثوق نقف. ولنشرح الحال، بوقائع سنوات الرماد، التي تجاوزت أجيالاً، تنظر لحالنا الحالي، فتجده قديماً. العسكر منا ينقلبون، منذ العقد الثالث في القرن الماضي، لتصحيح المسار، أما المدنيون فينتخبون ولا ينتخبون، تقبض أرواحهم النزعة الـ “مابينية”، بعيداً عن المسار، أما الإنقلابيون فينقلبون لتصحيحه.
لا أريد أن أثقل على القارئ العجول، من الرقمية تلح عليه، أن يقلب الصفحة، لكني في قبضة البين بين ما أريد لا أريده، فالأخبار تمطرني بحجارتها الـ “مابينية”، وتعيد وتكرر الصيغ والأخبار حتى الثمالة، ولا تكل ولا تجدد ما تتناقل. لكن الأدهى أن تكرر الكتب والفكر، المفاهيم والنظريات نفسها منذ عصر النهضة، فالنزعة الـ “مابينية” مستفحلة من الأصالة إلى المعاصرة، حتى الانقلاب اللا انقلاب، فالانتخابات التي تكون ولا تكون، فالعقل فينا منزوع التعقل، ما يستدعى البحث ودرس النزعة الـ “مابينية”، ومؤلفات في” قبح البين – بين في السياسة العربية”.
في كتاب “جمالية البين – بين في الرواية العربية” لرشيد بنحدو، يقول محمد المسعود، في عرض للكتاب، “الكاتب قد ألمح، إلى أن اهتمامه بهذه الجمالية، جاءت نتيجة قراءته للروايات، التي انشغل بها، والتي تشكل متن كتابه هذا، وهو المتن الذي يوحي بوجود “رؤية مانوية للوجود”، هي التي وسمت نصوصهم بالتأرجح بين ثنائيات متنافرة “.
لكن هذه “الرؤية المانوية للوجود”، التي تتأرجح بين ثنائيات متنافرة، تكون في السياسة طامة كبرى، توصم الواقع بالعقم وتحكم عليه بالموات، حيث يتأرجح السياسي بين ثنائياته المتنافرة، ما تكون وبالاً في الواقع. ولكن من جهته في الأغلب، يأخذها سترة “عري الملك”، فالهدف المسكوت عنه، ما لا ينطلي على أحد: بقاء الحال على ما هي عليه، فالانقلابي انقلابي، يستولي على السلطة بالقوة، تحت ذريعة تصحيح المسار، كذلك، من لا يريد انتخابات، يلغيها بدعوى تأجيلها، وعليه لا بين بين في هذه الحال.
صحيفة السوداني