مقالات متنوعة

اماني ايلا تكتب.. الفشل

الرشد السياسي.. دواء إدمان الفشل كلما قرأت أو راجعت الكتاب ذائع الصيت (النُخْبة السودانية وإدمان الفشل) لكاتبه مثير الجدل الدكتور المرحوم منصور خالد، والذي نعى فيه فشل العقل السوداني المفكر المثقف الناشط في الساحة السودانية في بناء الإنسان والمجتمع والدولة، تعتلي وجهي ابتسامة حزينة يعقبها سؤال كبير وعيناي تتجمدان عند كلمة (النُخْبة)، من هم (هؤلاء) النُخبة!؟ ومن صاحب الحق والقدرة والأهلية والصلاحية لتوصيف وتسمية من تولوا الشأن العام وإدارة الدولة في بلادنا منذ الاستقلال بأنهم (نخبة الشعب السوداني)؟ فكلمة نخبة تعني الصفوة المختارة والخيار من الخيار والأمثل والأفضل من المتميزين بمزايا استثنائية تفضيلية عن مجموعها أو مجتمعها أو فئتها، والتي تقابلها لغوياً واصطلاحاً العقل العامي غير المثقف ويمثله هنا كلمات مثل (الشعبوية) أو (الجماهيرية) أو قل (عامة الناس)!!

هذه الكلمة ذات المدلولات العميقة جداً لا أظن أن الدكتور منصور خالد قد عنون بها كتابه اعتباطاً، بل أرسل بها كاتبها إشارة خطيرة، ورسم بها صورة تخيلية لما سيكون عليه مستقبل السودان، فربط النخبة وإدمان الفشل في تأسيس وإدارة الدولة هو تماماً كالقول بفشل نخبة المهندسين في تشييد مبنى أو فشل نخبة الأطباء وأميزهم في علاج مريض! والفشل هنا بلا شك لن يخرج عن أحد سببين رئيسيين، إما استحالة إنجاز الهدف أو الفعل المطلوب إنجازه بحكم طبيعته أو أن أفضل أفراد هذا المجموع أو المجتمع (نخبة السودان) لم يكونوا أكفاء بما يكفي لوضع أسس بناء إنسان ومجتمع يحقق دولة عصرية ناهضة ومتقدمة، وبلا شك فإن كلا الخيارين كارثي المعنى والمضمون، خاصة إذا استصحبنا أننا ما زلنا ندور في دوامة الفشل هذه، بل إننا في كل عام نرذل أكثر، وإننا لم نتقدم الى الأمام أي خطوات إيجابية نحو إنجاز هذا الهدف منذ استقلالنا. مما يعني أن ما يسمى بـ(النُخْب) اللاحقة بعد الاستقلال وحتى يومنا هذا ما زالت بذات عدم الكفاءة والقدرة إن لم تكن أسوأ، فأين العِلة؟

مع تحفظي الشديد في توصيف أو تسمية من تولوا ويتولون إدارة الشأن السياسي ببلادنا منذ الاستقلال وحتى تاريخنا الماثل بأنهم (نُخْبة المجتمع السوداني)، إلا أن ظني المتواضع أن أس وأم ولب العلل التي ظل وما زال تعاني منها (نخبنا السياسية، تجاوزاً) التي تتحكم في مصائر دولتنا هو اانخفاض مستويات ما يسمى بـ(الرشد السياسي) عند غالبهم، ولكي لا نلقي القول على عواهنه فلنُشِر لبعض أهم وأخطر مؤشرات عدم الرشد السياسي الذي ساد ولا يزال يسود واقعنا السياسي بكل مكوناته بلا استثناء، وأول هذه المؤشرات ضعف الإحساس والاهتمام والتمسك بمفهوم (الاستقلالية والكرامة الوطنية) ويتمظهر ذلك في القبول المعيب ظاهراً وباطناً للتدخلات الخارجية الفاضحة والمعيبة والمذلة في الشأن الوطني، بل وطلب التدخل والوصاية بصورة رسمية من الخارج، وهو أمر لا تقبل به وترفضه بشدة كل الدول ذات السيادة والرشد السياسي المتقدم، إلا أننا ظللنا وما زلنا للأسف نرتضي ونتسول الوصاية السياسية الدولية كما نتسول غذاءنا ودواءنا تماماً.

ثاني مؤشرات ضعف أو انعدام (الرشد السياسي) هو إدمان استخدام الأحزاب والقوى السياسية للقوة القهرية للعنف بكل أشكاله والسلوك المخل بالقانون لتحقيق أهدافها السياسية، ولا يبدأ ذلك باستخدام العسكر للاستيلاء على السلطة كما فعلها من قبل كبار الأحزاب السودانية (الأمة، الشيوعي، والجبهة)، وكما حاولها وفشل عدة مرات أحزاب أخرى مثل البعث والاتحاديين وغيرهم، ولا ينتهي ذلك باستخدام المنع القهري المخالف للقانون من أمثلة التتريس وإغلاق الشوارع أو الاعتصام أمام مرافق حيوية أو تعطيل حياة الناس بالقوة القهرية غير الشرعية، وثالث مؤشرات فقدان الرشد السياسي هو ضعف ثقافة (قبول الآخر) والرفض القاطع للرأي الآخر المخالف بين التيارات والأحزاب السياسية، بل وداخل الحزب الواحد، والجنوح لتخوين وشيطنة وتجريم الآخر المخالف والعمل بكل الوسائل للقضاء عليه أو إقصائه من المشهد بكل الأساليب القانونية وغير القانونية، مما أضعف اللحمة الوطنية للسودان منذ استقلاله وجعل من العسير توافق كل أو غالب القوى السياسية على أيٍ من الثوابت الوطنية، بحيث لم يحدث في تاريخ السودان الحديث أن أجمعت القوى السياسية على أمرٍ وسارت به إلى نهاياته قبل أن تعصف الخلافات والاحتقان بينهم بالهدف الوطني المرجو.

الحل ليس في (البل) بالخارج بتنصيبه وصياً علينا، وليس بالعسكر ليستولي على السلطة لصالح جهة دون الآخرين، وليس في محاولات القضاء على المخالفين لنا بالرأي بالإقصاء أو الشيطنة أو التجريم، دواء داء الفشل الملازم لعهودنا السياسية هو مزيد من (الرشد السياسي) المُعلي لقيمة (الاستقلالية والكرامة الوطنية) لدى القوى السياسية كافة، والمفضي لـ(التوافق الوطني) على (ثوابت وطنية) يلتزم بها الجميع و(ميثاق شرف سياسي) يؤكد على قبول الآخر والتداول السلمي للسلطة، عدا ذلك سنظل نحرث في البحر ولن نجني سوى مزيد من (إدمان الفشل) يا (نخبة)!!!

-=-=-

مصحح

صحيفة اليوم التالي