اللاءات الثلاثة ….. (2 من 2)
بحسب ما أثبتنا في الجزء الأول؛ فإن أهم مهام وإختصاصات الجيش، بحسب نص قانون قوات الشعب المسلحة هي: حماية سيادة البلاد والدفاع عن النظام الدستوري والذود عنه، وتأمين سلامة البلاد والدفاع عنها فى مواجهة التهديدات ((الداخلية)) والخارجية، وتأمين احترام سيادة حكم القانون والحكم المدنى الديمقراطى وحقوق الإنسان ، والتصدى لحالات الطوارئ المحددة قانوناً ” وأثبتنا أن وضعها ودورها الطبيعي هو بقاؤها في ثكناتها ومواقع انتشارها في حالة التأهب التام تراقب الأوضاع وترصد المهددات (الداخلية و الخارجية) لسلامة البلاد ولنظامها الدستوري وسيادة حكم القانون، ولا شأن لها مطلقاً بتسيير دولاب العمل التنفيذي المدني الخالص الذي من الطبيعي أن تتولاه حكومة مدنية ذات شرعية دستورية بحسب نظام الحكم المتبع في الدولة.
الناظر بتجرد للأحوال والأسباب التي استدعت الجيش في تاريخنا السياسي الحديث للتدخل في ساحة العمل السياسي واستلام السلطة في العام 1958م ثم في العام 1969م ثم في العام 1985م ثم في العام 1989م، لأبد أن يلحظ ثلاث حقائق لا يمكن أن تخفى على أحد: أولها أن كل حالات تدخل الجيش المذكورة كان بتخطيط أو تنفيذ أو إيحاء أو دعم من أحزاب مدنية!! ولم يخلو حكم أنجزه الجيش في عهود عبود ونميري والبشير من مشاركة غالب الأحزاب المدنية في حكوماته المتعددة، بل إن غالب وزراء حكوماتهم كانوا من مدنيين تكنوقراط !! والحقيقة الثانية هي أن كل حالات استلام الجيش للسلطة أعقبت فترات من التشاحن والتشظي والاحتقان السياسي الداخلي بين الأحزاب السياسية بسبب فشلها الذريع في القيام بأدوارها في إدارة الشأن العام للدولة، وإانشغالها بالصراعات الحزبية داخلها، وفيما بينها عن حفظ الأمن القومي وتوفير حياة كريمة للمواطنين، والمؤسف أن؛ هذا الفشل الناتج عن تدني مستويات الرشد السياسي داخل هذه الأحزاب ظل يتولى، بل ويتصاعد بصورة مخيفة كلما مضى بنا الزمان، فمستويات الاختراق الخارجي للأمن القومي والانفلات الأمني والانقسام المجتمعي الناتج عن الاحتقان السياسي والتشاحن والاختلاف الحادث اليوم بين مكونات الساحة السياسية والمهدد مباشرةً للأمن القومي والمجتمعي، هو اليوم أشد مما كان عليه في كل سوابق أيام الانَقلابات العسكرية!! والحقيقة الثالثة المخيفة جداً، والتي لا تلقى اهتماماً كبيراً لا من عامة الناس ولا من قادة الأحزاب هي أن غالب أحزابنا السياسية ذات امتدادات وولاءات خارجية وتربطها (حبال سرية) بكفلاء في الخارج يتلقون منهم الدعم المالي والتوجيه السياسي بما يخدم مصالح الخارج لا مصالح الوطن، مما يشكل تهديداً مباشراً للأمن و المصالح القومية لا يمكن تجاوزه ولا السكوت عليه بأي حال، وبلغ الأمر بمدير مخابرات دولة أجنبية أن يهدد علناً بأن لديهم كشوفات بكل من استلم منا (درهماً)، وصارت بعض السياسات تطبخ لخدمة أهداف لا جدال في مساسها بالأمن و الاقتصاد الوطني لكنها تخدم مصالح محاور إقليمية!!
هذه الحقائق الثلاث تثبت الدور الكبير الذي ظلت وما زالت تلعبه الأحزاب السياسية في صناعة وتوفير دواعي تدخل الجيش في الساحة السياسية، لا تطفلاً ولا تسلطاً بل قياماً بدوره المنصوص عليه في قوانينه، حيث أن مؤشرات الواقع اليوم تثبت مستويات الرشد السياسي لدى أحزابنا ظلت تتدنى ولا ترتفع، وأنها لم تعي بعدُ دروس الماضي ومازالت في غييها القديم تتجاهل التمسك بروح السيادة والكرامة الوطنية فتجدها تستنصر بالخارج والأجنبي على بني وطنها وعلى وطنها، وترفض التوافق الوطني و قبول الآخر، وتصر على نقيصة التخوين و التجريم و الشيطنة والإقصاء لكل من خالفها رأيها، ولا تتورع في مد يدها بالقوة والعنف بكافة أشكاله من الانقلاب العسكري وتكوين المليشيات المسلحة وحتى التتريس والإرهاب الفكري للخصوم.
إن أرادت الأحزاب ومكونات الساحة السياسية المختلفة أن يعود الجيش لثكناته و أن ينصرف لمهامه الأساسية، وأرادت أن تتجنب تدخله المباشر في العمل السياسي وتوليه لمقاليد الحكم، فعليها أن ترتقي هي لمستويات الرشد السياسي اللازمة لتأسيس حياة سياسية نظيفة، بأن تتوافق على ثوابت خمسة تؤسس لدولة مدنية مستقرة، وهي : أولها: ثابت السيادة والكرامة الوطنية ورفض التدخلات الأجنبية والاستنصار بالخارج بأي حال، وثانيها: ثابت الدستور الوطني المنظم للحقوق والواجبات والمتوافق عليه من غالبية الشعب باستفتاء نزيه، وثالثها: لا سلطة لجهة أو حزب إلا بتفويض شرعي من الشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة، ورابعها: لا فرض لدين أو فكرة أو ايدولوجية سياسية على الناس بالقوة، وأن الشعب هو من يختار مصادر تشريعه وحاكميته، وخامسها: وآخرها: هو قبول الآخر والتصالح و التسامح السياسي والإيمان بأن رأي الحزب الذي أنتمي إليه صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيره من الأحزاب في نظري خطأ لكنه يحتمل الصواب، و الفيصل بيننا هو الشعب عبر صناديق الانتخاب النزيه.
سيعود الجيش لثكناته عندما تتخلى الأحزاب السياسية عن سلوكها المهدد لأمن وسلامة البلاد، وعندما تتوافق على الثوابت الوطنية و تلتزم بها، وتؤسس لدولة مدنية مستقرة تحمي الحقوق بدستور قوي متوافق عليه وتنظم التداول السلمي للسلطة بينها، ولها أن تحدد في صلب دستورها هذا واجبات واختصاصات الجيش كما تشاء. فما الذي يمنع هذه الأحزاب عن القيام بدورها في تأسيس الحياة السياسية المدنية ليبتعد الجيش عنها!!؟ فما سمعنا ولا رأينا منذ سقوط النظام السابق اجتماعاً للأحزاب تناقش فيه قيام مؤتمر دستوري أو أن تُقر دستوراً متوافقاً عليه يحكم البلاد، ولا رأيناها تتحدث عن مفوضية انتخابات أو قيام انتخابات تمنح الشرعية الشعبية لمن يستحقها ليقود البلاد والشعب وفق رغبته، ولا هي بحكومتيها المدنيتين السابقتين حققت للشعب أحلامه في حياة كريمة أو عدالة أو سلام.
حتماً سيعود الجيش لثكناته ململماً صناديق ذخيرته ، عندما تلملم الأحزاب شتاتها وتذهب لصناديق الانتخابات وفق دستور منظم للتداول السلمي للسلطة بينها ينهي تشاكسها صراعات ها.
أماني ايلا
صحيفة اليوم التالي